أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

العيد الفضي لهجرتي!

قد يكون يوم الاحتفال بهجرتي القسرية هو من أتعس الذكريات، ففي كل عام، في الثاني من تموز، وهو يوم مغادرتي لدمشق ويوم وصولي إلى مونتريال، تنتابني مشاعر متناقضة، وإن كان يغلب عليها الحزن والقلق، دون نسيان إحساس الأمن. ولكن لذكرى هذا العام طعم مختلف، فهو عدا عن كونه يقع في اليوم التالي للعيد الوطني الكندي، وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على ثورة الشعب السوري ضد الطغيان، فإن للذكرى اليوم قيمة تاريخية، فهي تسجل مرور خمسة وعشرين عاما على إقامتي الكندية ومثلها عن بعدي عن سوريا. أعرف أن سوريا "الأسد" قد تفوقت عالميا في نفي وقتل وتعذيب أبنائها، وأن مأساتي لا تشكل نقطة في بحر عذابات سوريين آخرين، ولكنها تبقى شهادتي أنا رغم تواضعها.

لن أتكلم في "اليوبيل الفضي" لهجرتي عن الجوانب الإيجابية والسلبية لهذا الفعل الإجرامي الذي فعله آل الأسد بنا كسوريين، وسأكتفي بنقل رسالة أرسلها لي والدي العجوز منذ ذلك الوقت، تعكس بعض الألم الذي يعيشه والد لفراق أبنائه ومنهم أنا، خاصة إذا عرفنا أن هذا الوالد كان قد عاش يتيما بعد أن تركه والده طفلا وهاجر إلى الأرجنتين ولم يعد، فقد قرر الوالد أن لا تتكرر المأساة مع أبنائه، وعمل على تأمين الحد الأدنى كي يبقوا بجانبه في وطنهم، ولكن ما لم يحسبه هذا الوالد المسكين هو وصول حافظ الأسد إلى السلطة وتحويل سوريا إلى مزرعة خاصة، على الجميع فيها طاعته أو الموت أو ترك المزرعة، وهذا ما حصل يا والدي، سامحنا إذا كنا قد قصرنا في المحافظة على وطن جميل كسوريا.

رسالة من عطية سعد إلى ولده ميخائيل:
ولدي وحبيب قلبي أبا عمرو أدامك الله وحماك ووفقك دائما وأبدا، أما بعد، كيف صحتك أيها الحبيب وكيف أحوالك وأعمالك عساها على ما أرغب إليك، لا أعرف بماذا ابتدىء، هل ببث شوقي إليك أم بالدموع التي تتساقط، دون إذن، من مقلتي وأنا أجر القلم لأخط إليك رسالتي هذه، لكن الأغلب دفعني شوقي إليك أن أبتدىء واحرر هذه الأسطر، وكل كلمتين أو أقل، أمسح دموعي التي تنهال خوفا من ان تبلل الرسالة.

تركتني يا ميخائيل ولم أكن أنتظر منك ذلك، ولم أكن أصدق نفسي أن تكون قاسيا عليّ هكذا، تركتني وتركت قلبي يحترق ويذوب رويدا رويدا، تركت ابا عجوزا كان سعيدا بقربك وفرحته لا يبيعها بكنوز الدنيا، تركت الأب العجوز الذي كان يظن أنك ستكون سلواه ويعيش ما تبقى من عمره بين أحضانك، إذا جعت أنده يا ميخائيل، وإذا عطشت أنده يا أبا عمرو، وخاصة عندما أمرض أقول اجلبوا لي ميخائيل، فمن اين لي هذا بعد غيابك عني جميعه ضاع وضاعت أحلامي التي كنت أحلم بها، قاتل الله الزمن العاطل والظروف التي حرمتني كل من احب وأبقتني وحيدا فريدا بين مخالبها، تركتني وأخذت الاحبة من عندي، وأخذتُ ألتفت يمنة ويسرة فلا أجد حولي سوى الهموم والأحزان. لقد سافر قبلك إخوتك فعلا ولكن لم يشكلوا فراغا عندي مثل سفرك، لقد كنت ابني ورفيقي وصديقي في كل الأوقات، وإذا كان يمضي يوم لا أشاهدك فيه يكون مثل غمامة علي ولا أتمكن من الجلوس حتى أراك، حتى عندما كنت في السجن، كنت أحسك قريبا مني، ولكن وقد ذهبت بالسلامة إلى مكان بعيد حيث لا يمكنني رؤيتك بعده وهيهات هيهات يا أبا عمرو إن كان الزمان يعود ويجمعنا سوية. سامحك الله يا حبيبي حتى مع ذهابك سرا عني.

بالفعل يا أبا عمرو أنا ضعفت بعدكم، وأخذت أعصابي تنهار وجسمي ينحل ونظري يشح من كثرة البكاء على فراقكم، فأشكو هذا الزمان العاطل إلى الله وحده، وأشكو له لوعتي وحرماني من أحبابي، وأكثر ما زاد عليّ الهموم هو بيع أملاكك وعقاراتك التي بيعت بالكساد، فجميع ما جنيت طيلة عمرك ذهب مع الريح كالقش اليابس، أنظرُ إلى كل هذا واحترق. ولم يبقَ أمامي إلا الدعاء لكم من عمق قلبي طالبا من الله أن يجعل لكم في كل خطوة سلامة ويوفقكم ويرزقكم، وهذا الدعاء اكرره كل يوم عندما أضع رأسي على الوسادة.

أما من ناحية الحبيب والغالي عمرو فهو والحمد لله أصبح شابا ويفهم كل الامور ولا يُسر إلا عندما يأتي لعندنا، وفي اليوم الذي لا تحضره أمه يأتي لوحده ويطلب مني حكايات ومن جدته، وهو والحمد لله بصحة حيدة، وكلما قلت له بعذ ذهابك إلى كندا كيف ستحضر لعندنا؟ يقول: أقول لأبي وهو سيجلبني لعندكم.
نحن جميعا بخير يا أبا عمرو ما دمنا في بيتنا وعلى أرضنا، لا تحمل همومنا أبدا وانتبه إلى عملك.
ختاما أقبّل خديك مرارا وتكرارا، ودمت لوالدك المشتاق
...
عطية سعد، حمص في 22-11-1989

(137)    هل أعجبتك المقالة (152)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي