في تطور مفاجئ، وبالتزامن مع الأحداث الجاريّة
في العراق، وتوالي سقوط المدن التي تقطنها أغلبية سنية في شمال وغرب العراق، أعلن المتحدث
الرسميّ باسم تنظيم الدولة الإسلاميّة أبو محمد العدناني 29 حزيران/يونيو 2014، قيام
الخلافة الإسلاميّة، ومبايعة أمير تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام أبو بكر
البغداديّ "خليفة" للمسلمين في أرجاء المعمورة. وفي تسجيل صوتي 1تموز/ يوليو
2014، للخليفة المعين من قبل ما يسمى مجلس شورى الدولة الإسلامية، طالب أبو بكر البغدادي
المسلمين في العالم بالهجرة إلى "دولته" مبشرا بزمان جديد للمسلمين فيه
"كلمة عالية مدويّة". طرحت خطوة تنظيم الدولة الكثير من الأسئلة عن حجم قوته
ونفوذه، وعن المغزى والدوافع الحقيقة لهذه الخطوة في ظل تعقد المشهد وتعدد القوى الفاعلة.
إعلان الخلافة: فائض قوة
يذهب أنصار هذا الاتجاه إلى أن خطوة تنظيم الدولة هي تتويج لمسار عمل التنظيم منذ إعلان دولة العراق الإسلامية عام 2006، ليكون مشروع سلطة حقيقيا يحكم ذاته بذاته دون الحاجة إلى تنظيم القاعدة وطروحاته عن "التنظيمات الإقليمية" المرتبطة بالقيادة المركزيّة للتنظيم. ليس هذا
فحسب، بل مثل إعلان دولة العراق الإسلامية آنذاك، نقطة تحول فيما يتعلق بايديولوجية
القاعدة وأولويات الصراع والجهاد المتوافق عليها منذ الإعلان عن الجبهة العالمية لمحاربة
الصليبيين واليهود عام 1998، والاتجاه للتركيز على الجانب المحلي للصراع بدلا من الإطار
العالمي أو المعولم. ومنذ ذلك الحين، قدم قتال المخالفين محليا على قتال (العدو البعيد)،
فاتحا بذلك مرحلة من الحرب الطائفية في العراق حصدت الكثير من الأرواح وارتكبت فيها
جرائم وانتهاكات، وكانت دولة العراق الإسلامية المحسوبة شكليا على تنظيم القاعدة أحد
أبرز أطراف هذه الحرب، وهو أمر أزعج حتى قيادة القاعدة، وجعلت الزعيم السابق للتنظيم
أسامة بن لادن يعتذر في رسالة حول العراق نشرت في عام 2007، عن ما أسماه تطرف القاعدة
في العراق واستهتارها بالحياة البشرية وقتل المخالفين. لكن مشروع الدولة الإسلامية
في العراق، وككل المشاريع الجهاديّة المشابهة له فشل بعد عام 2007، إذا ساهمت انتهاكاته
واستهتاره بالحياة البشريّة في نجاح ما سمي آنذاك مشروع باتريوس والذي تضمن تشكيل فصائل
مسلحة من العشائر السنية في العراق لمواجهة دولة العراق الإسلامية، وهو مشروع انتهى
بطردها من غالبية المدن والحواضر العراقيّة التي توطنت فيها في مرحلة انطلاق المقاومة
ضد الاحتلال الأميركي والبريطاني للعراق. وفي الحقيقة، لم يعكس مشروع ما عرف لاحقا
بالصحوات، رغبة أميركية، بمقدار ما عكس رغبة لدى شرائح عراقية سنية بتمييز نفسها عن
تنظيم دولة العراق الإسلامية، والذي حاول اختصار المشهد السني والمقاوم في العراق.
وكنتيجة لذلك، اضحمل التنظيم، وأصبح معزولا
في الصحاري، ولم يكن له تأثير عملياتي يذكر خلال سنوات (2008-2010) باستثناء التفجيرات
الانتحارية المتفرقة، والتي ركزت على استهداف المدنيين وأسواقهم وتجمعهم أكثر من استهداف
القوات الأميركية أو القوات العراقيّة. وجاءت الثورات العربيّة، ونجاح الشعوب في بدايتها
لتوجه ضربة كبيرة للفكر الجهادي القائم على الفهم العنفي الانقلابي لإحداث التغيير،
وهو ما وضع تنظيم القاعدة والتنظيمات المرتبطة به في موقف فكري وايديولوجي حرج، جعل
الكثير من المنظرين يبشرون بافول عهد القاعدة، إلا جاءت ثورة سورية والتي منحت القاعدة
والتنظيمات المرتبطة بها كجبهة النصرة مكانا وموقعا جديدا ومتميزا وجعلها تتكيف وتدخل
من باب الصراع المسلح لتركب الثورات وتحاول الاستئثار بها.
وعلى اعتبار أن تنظيم دولة العراق الإسلامية
هو مشروع سلطة بالدرجة الأولى، فإن النموذج القاعدي الجديد (جبهة النصرة) والذي ساهم
هو في تأسيسه، لم يرق له، وجاءت خطوة أبو بكر البغدادي 9 نيسان/أبريل 2013 بدمج التنظيمين،
وهو ما رفضته جبهة النصرة ليدخل تنظيم القاعدة في مرحلة جديدة يتقاتل فيها فرعان تابعان
له، وتفرض على قيادته الانحياز لواحد منها، كما حصل مع الظواهري عندما خطأ أبو بكر
البغدادي وانحاز للنصرة.
وعلى الرغم من ذلك، لم يتراجع تنظيم دولة
العراق الإسلامية، والذي سمى نفسه ومنذ نيسان عام 2013، "الدولة الإسلامية في
العراق والشام" عن أفكاره ودخل المواجهة تلو المواجهة مع النصرة والفصائل الإسلامية
السورية والجيش الحر، وخسر مناطق وجولات عدة وكاد أن يتلاشى وينتهي لولا مجموعة من
العوامل ذكرتها في مقال سابق بعنوان "هل أخطأنا تقدير قوة الدولة الإسلامية"،
وفي مقدمتها انتفاضة العشائر السنية في العراق والتي أصبح جزءا منها بعد تحولها إلى
انتفاضة مسلحة، ومن ثم يصبح الفصيل الأكثر تأثيرا فيها بعد الأحداث الأخيرة والتي بدأت
10 حزيران/ يونيو 2014 بسقوط الموصل والمدن الأخرى، وهو ما أعطى التنظيم زخما عسكريا
سخره للسيطرة على محافظة دير الزور، والتمدد باتجاه المناطق التي أخرج منها في حلب.
لأول مرة منذ تأسيسه، يسيطر التنظيم على
مساحات شاسعة ومتواصلة جغرافيا في كل من سوريا والعراق، ولأول مرة يسيطر على حواضر
ومراكز محافظات أساسية في كل من سوريا والعراق، ولأول مرة يغتنم كميات كبيرة من الأسلحة
الخفيفة والثقلية، لأول مرة يحتجز مبالغ مالية خيالية تصل إلى مليار دولا بعد سيطرته
على بنوك الموصل والمدن العراقيّة الأخرى والتي هرب منها موظفوها تاركين الاحتياطات
النقدية فيها لمن يسيطر عسكريا، ولأول مرة يسيطر تنظيم الدولة على حقول نفطية في سوريا
والعراق تدر مبالغ نقدية كبيرة وبشكل يوميّ. فائض القوة العسكريّة، والمالية، والمعنوية،
والرمزيّة دفع ما يسمى مجلس شورى الدولة الإسلامية إلى إعلان الخلافة وهو هدف دابت
الحركات الجهادية على اختلاف تنظيماتها في وضعه ضمن قائمة اولوياتها المستقبليّة.
إعلان الخلافة: خطوة استباقيّة
كما ذكرنا سابقًا، نظر تنظيم دولة العراق
الإسلاميّة ومنذ تاسيسه إلى نفسه باعتباره مشروع سلطة ودولة بغض النظر عن المقومات
اللازمة لهذا المشروع. وقد تعرض التنظيم لانتكاسات عدة، نجح أو سمحت له الظروف بتجاوزها.
وبناء عليه فإن البقاء والاستمرارية تشكل عقدة لدى قادة التنظيم، وهاجسا يلاحقهم بشكل
دائم، ما يدفعهم باستمرار لاتخاذ خطوات استباقيّة للمحافظة على التنظيم، والحيلولة
دون اندثاره وانهياره وزواله. لن نرجع بالتفاصيل إلى الوراء كثيرا، سنكتفي بإيراد بعض
الوقائع الحديثة.
أوضحنا سابقا كيف أن الثورات العربية وجهة
ضربة قاسية للمفهوم العنفي الانقلابي للحركات الجهاديّة، وكيف استطاعت القاعدة من خلال
ظروف الثورات المسلحة كما في ليبيا وسوريا من تجاوز هذه العقدة، والعودة من باب الثورات
لمزوالة النشاط والفاعلية. ولتجاوز أخطاء المرحلة السابقة، بدأ فكر القاعدة يسلك أساليب
مختلفة، تقطع مع اساليب السابقة القائمة على الغلبة والغلطة والقوة العسكرية الباطشة.
وجاء تأسيس جبهة النصرة 24 كانون الثاني/ يناير عام 2012 ليمثل هذا النموذج الجديد،
والذي يحرص على علاقات جيدة من المجتمعات المحلية التي يستقر فيها، ويغلب نهج التعاون
والتكامل مع الفصائل المقاتلة الأخرى على الصدام والغلبة، ويبتعد في نفس الوقت عن طروحات
إشكالية تنظيمية أو فكريّة قد لا تتقبلها المجتمعات مرحليا أو قطعيا كإعلان الدولة
والحكومة الإسلامية أو الخلافة. انطلاقا مما سبق، مثلت جبهة النصرة نموذجا تجديديا
في فكر القاعدة، وحظيت في المراحل الأولى بمباركة أوساط التيار السلفي الجهادي. وبمقدار
ما كان نموذج النصرة يشكل انتعاشة للقاعدة بمقدار ما مثل تهديدا وجوديا لتنظيم دولة
العراق الإسلامية والذي كان يحظى بسمعة سيئة في العراق بسبب أساليبه العنفية وانتهاكاته
وجرائمه. نظر أبو بكر البغدادي بعين الريبة إلى نموذج النصرة، واعتبره تهديدا لمشروعه
السلطوي القائم والمستقبلي، لذلك أقدم وبدون سابق إنذار على خطوة استباقيّة لإضعاف
النصرة وحفظ تنظيمه بإعلان الدمج والدولة الإسلامية المتوحدة في العراق والشام. وقد
لعب البغدادي على وتر حساس، ودغدغ مشاعر كثير من الجهاديين في شتى أصقاع المعمور باعتبار
أن إقامة الدولة الإسلامية والتي تحكم الشريعة كان وما زال حلما يراودهم ويسعون لتحقيقه.
الأمر الذي جعل كثيرا منهم "يهاجرون" إلى سوريا والعراق للقتال والذود عن
الدولة الإسلامية المزعومة، ولعل مثال "أبو عمر الشيشاني"، والذي حمى داعش
في سوريا أبرز الأمثلة التي يمكن أن تطرح في هذا السياق. فعلى الرغم من معرفته ومعايشته
لانتهاكات التنظيم في سوريا وجرائمه، فإن الشيشاني حرص على استمرار الولاء والمبايعة
لزعيم التنظيم انطلاقا من إيمانه أن قيام الدولة الإسلامية يمثل أولوية تقدم على سواها.
تدرك قيادة التنظيم، أن مكتسباتها في العراق
تهدد مصالح كثير من الدول الإقليمية والقوى الدوليّة، كما أن ازدياد نفوذ التنظيم
يشكل تهديدا وجوديا لكثير من الفصائل الجهادية والإسلامية والثورية والتي قد تجتمع
يوما على قتاله للحفاظ على وجودها. وفي خطوة لاستباق تدخل دولي مرتقب لمحاربة التنظيم،
وتكتل المتضررين من الفصائل لمحاربته، أقدم البغدادي على إعلان الخلافة، ودعا المسلمين
للهجرة إليها للذود والدفاع عنها.
من جديد، يسعى البغدادي لدغدغة مشاعر وعواطف
شريحة من المسلمين لطالما نظرت إلى مشروع الخلافة باعتباره مشروعا إنقاذيا للأمة الإسلامية
مما تعانيه من ضعف وتشتت. وهذا البعد العاطفي قد يدفع المئات ولربما الآلاف منهم للهجرة
إلى دولة البغدادي ومبايعته خليفة للمسلمين، والدفاع عن التنظيم.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية