"الأضرحة الإسلامية" ظاهرة معمارية مميزة انتشرت في مدن بلاد الشام، كما في كل المدن العربية والإسلامية الأخرى خلال مختلف مراحل التاريخ الإسلامي. والمقصود بالضريح حسب ما هو معروف هو ذلك البناء المربع الشكل الذي يشاد حول قبور الأنبياء أو الصحابة أوالأولياء بقصد التكريم والتبارك بهم، وقد تنتصب فوق هذا البناء قبة خضراء اللون على الأغلب، محمولة على حنيات ركنية أو غيرها، ومن الأضرحة المشهورة في بلاد الشام ضريح الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز الذي لقّبه مؤرخو الإسلام بالخليفة الراشدي الخامس.
يقع هذا الضريح في قرية دير سمعان أو "دير النقيرة" كما يعرفها العامة التي تبعد حوالي ثلاثين كيلو متراً إلى الجنوب الشرقي من بلدة معرة النعمان في الشمال السوري، وقد ورد ذكر هذا الضريح لدى عدد كبير من المؤرخين والرحالة على مختلف ميولهم ومذاهبهم السياسية والدينية ومنهم "ياقوت الحموي" الذي ذكر أن (دير سمعان قرب المعرة من أعمال حلب وفيها قبر (عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه)، كما ذكر الذهبي في كتابه (العبر والحوادث) أن وفاة عمر بن عبد العزيز في دير سمعان قرب المعرة من أعمال المعرة، وأيّده الفيروز أبادي في قاموسه المحيط، وأكد ذلك السمعاني، وأوضح أبو الفداء في كتابه المختصر "أن دير سمعان هو المعروف بدير النقيرة من أعمال معرة النعمان وفيه قبر الخليفة عمر بن عبد العزيز"، كما ذكر ابن الوردي في تاريخه زيارته لقبر عمر بن عبد العزيز غير مرة في دير سمعان (النقيرة)، وفي كتاب الدر المنتخب في تاريخ حلب لابن الشحنة ورد أن (دير سمعان) من قرى المعرة تعرف بدير النقيرة وفيها قبر عمر بن عبد العزيز وبجانبه قبر الشيخ (أبي زكريا يحيى بن منصور)، وكان متعبداً هناك ودفن سنة 600 للهجرة. وذكر ابن بطوطة في رحلته سنة 727 هجرية المعرة وقبر عمر بن عبد العزيز في ضاحيتها، وفي كتاب مخطوط بالسريانية لراهب كان في دير النقيرة محفوظ في إحدى خزائن المتحف البريطاني بلندن تحت رقم 14629, وتاريخه 720 هجرية ذكر وفاة الخليفة ابن عبد العزيز ودفنه في دير النقيرة وأن الخليفة عمر قد جعل من الملك العضود الأموي خلافة أوابة عادلة باّرة تمثل كل فضائل عصر النبوة، إنه الرجل الذي حاول نقل عصر النبوة بمثله وفضائله إلى دنيا هائجة مائجة مفتونة مضطربة بالظلم والقهر، وثمة إشارة إلى مكان الضريح في سجلات محكمة حماة الشرعية.
وفي رثائه للخليفة "عمر بن عبد العزيز" يقول الشاعر الشريف الرضي نقيب الأشراف في بغداد:
"يا بن عبد العزيز لو بكت العين
فتى من بني أمية لبكيتك
ولو أني رأيت قبرك لاستحييت
من أن أرى ولا حيّيتك
دير سمعان لا عددتك العوادي
خير ميت من آل مروان ميتك"
بساطة وتقشف
يشبه الضريح الذي يضم رفات الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز التكيةَ التي يكثر وجودها في بلاد الشام، وقد أحيطت بالأروقة الحجرية، وفي وسطها انتصب قبر الخليفة بن عبد العزيز مجلّلا بغطاء أخضر على عادة تغطية الأضرحة الإسلامية وإلى جانبه قبران، وأمام هذه المشهد شديد البساطة يقف الزائر حائراً يتلمس الذكريات التي تنقله إلى الجو الذي عاش في ظلاله الخليفة عمر بن عبد العزيز، فلا يعثر على شيء، نعم لا شيء من جلال الذكرى، ولا شيء يمثل حياة واحد من كبار رجالات الإسلام سوى قبة كبيرة مزدانة بقمريات غاية في التقشف مرصوفة من الداخل بالقرميد الأحمر الداكن.
حول حكاية هذا الضريح تحدث الباحث الآثاري أحمد غريب مدير آثار معرة النعمان لـ "زمان الوصل" قائلاً:
قبل الحديث عن حكاية هذا الضريح تجدر الإشارة أولا إلى بعض الملامح من سيرة سيدنا عمر بن عبد العزيز، وكيف وصل إلى هذا المكان، واختاره مثوى لرفاته. أثناء عودة الخليفة عمر إلى دمشق قافلا من (برج دابق) حيث كان المسلمون يرابطون ضد هجمات الروم وصل إلى خناصرة ومن ثم إلى دير سمعان، فمرض فيها من تأثير السم الذي دّسه خادمه الذي كان يعد له الطعام، وقد علم بذلك فأحضره، وسأله واعترف الخادم بهذا الأمر فطلب ابن عبد العزيز منه إعادة المبلغ الذي أعطي له من قبل أبناء عمومته الذين لم يستطيعوا مجابهته إلا بهذا الأسلوب الخسيس، فاستعاد المبلغ ووضعه في خزينة مال المسلمين، ثم قال للخادم اذهب حتى لا يراك أحد من قومي فيقتلوك، واستدعى الخليفة عمر بن عبد العزيز رئيس الدير ليشتري منه مكان دفنه ولمدة خمس سنوات فقط، تعود الأرض بعدها إليه. ولما ترفّع رئيس الدير عن قبول الثمن انتهره، فقبل ذلك، ودفن الخليفة عمر في هذه القرية يوم الجمعة في 5 رجب سنة 101 هجرية.
صلاح الدين مر من هنا
بقي بناء ضريح الخليفة عمر في العراء قرونا طويلة حتى صادف أن قام بزيارته السلطان صلاح الدين الأيوبي بعد انتهاء حروبه مع الصليبيين، ولم يرق للسلطان أن يبقى هذا القبر في العراء دون مكان يؤويه، فأشار إلى إقامة بناء من حوله، وقامت أواوين ثلاثة من حول الباحة التي تضم القبر، فالباحة تضم قبر الخليفة وقبر زوجته فاطمة بنت عبد الملك، وإلى جانبه من الشمال قبر الصاحب "أبي زكريا يحيى بن منصور" الذي كان محدث زمانه. وقد اعترى البناء بعض التوهن فجرتْ له بعض الترميمات أواسط العهد العثماني، وبقي مزاراً يؤمّه الزوار، أما الآن فتعرض الضريح مثل غيره من الأوابد والمواقع الأثرية للكثير من الدمار والتهديم من خلال استهدافه بالصواريخ من معسكري الحامدية ووادي الضيف التابعة لقوات النظام.
خالد عواد الاحمد - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية