لم أعرف ماهية العلاقة بين الكذب والملح والرجال، إلى أن وقع بين يدي كتاب يتحدث فيه كاتبه عن بداية الاستعمار الأوروبي للمناطق البكر في القارة الأفريقية، حيث اكتشف الأوروبي أن ابن تلك المناطق لم يكن يستخدم الملح في طعامه، ولم يكن يعرفه أصلا، فقدمه الرجل الأبيض هدية ثمينة إلى زعيم القبيلة، وأخذ مقابله كل ما يريد. وفي كل مرة، كان زعيم القبيلة يقبل فيها هدية الملح الأبيض من المستعمر، كان أبناء القبيلة يلاحظون التغيرات التي تطرأ علي زعيمهم، فإقباله على الطعام يزداد و"صحته" تجاوزت الحد المألوف، وقدرته على الكلام والتعبير أضحت أكثر طواعية وتلوينا، وأصبح يطلق حِكَما لا يفهمون معناها ومدلولاتها، وعهدهم به لا ينطق بكلمة غير مفهومة، وعندما كانت تثور ثائرته لأتفه الأسباب كانوا يعرفون أن مؤنته من "الغذاء الأبيض" قد نفدت، مما دفع بالفضوليين إلى البحث عن السر، فوجوده عند الرجل الأبيض، الذي كان قد بث هديته في غير مكان، ولأكثر من زعيم، فأدت إلى معارك دامية بين القبائل والفصائل المسلحة، وبين الأفراد الذكور في القبيلة الواحدة والطائفة الواحدة، وتغيرت، مع انتشار الملح، المعايير الأخلاقية، ووصلت إلى درجة تنطوي على قدر كبير من الزيف والنفاق، وظهرت قيم الأنانية، والتزاحم وحب الظهور، والرغبة في التسلق على أكتاف الآخرين في أوساط من كانوا يدعون الطهارة والموت فداء للوطن، كل ذلك جرى برعاية الرجل الأبيض، وملحه الأكثر بياضا.
وفي فصل آخر من الكتاب، يعلق الكاتب قائلا: إن الملح قد عرف في المجتمعات القديمة، وانتشر بين الناس انتشار النار في الهشيم، وأصبح ضرورة يومية لا يمكن الاستغناء عنها، واشتد الطلب عليه مما دفع ببعض الحكومات الأوروبية والأمريكية، في ذلك الزمن، إلى فرض ضريبة الملح على المواطنين في محاولة يائسة للحد من استخدامه، وفي الوقت نفسه لجني أرباح طائلة من وراء تحصيل هذه الضريبة.
أما في مجتمعات العالم الثالث، حيث الحكومات تذوب وتختفي كما يذوب الملح في الماء، عندما يتعلق الأمر بصحة وسلامة مصالح شعوبها، فإنها فرضت ضريبة الدم على الناس، وأغرقت الأسواق، في الوقت نفسه، بكمية كبيرة من الملح، الذي ينقل عدوى الكذب إلى الناس وخاصة في أوساط ما يُسمى "هيئات المجتمع المدني ونشطاؤه"، وهكذا أصبحنا نسمع قصائد المديح الكاذب والطرب الكاذب والثقافة الكاذبة والسياسة المنافقة في كل مكان، وخاصة في أوساط من يطلقون على أنفسهم ألقابا طنانة، كلقب ثائر ومناضل وناشط ومعارض وسياسي. وهكذا أيها السادة أسقطنا كل قيمنا الأخلاقية، ورفعنا راية جديدة وشعارا وحيدا، هو: "الكذب ملح الرجال".
وبسبب ازدياد نسبة الكذابين في ثورتنا السورية، "وجودة" أصنافهم، أصبحنا نستطيع الحصول على الملح بأرخص الأثمان، ومن أفضل الأنواع.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية