أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

ديالكتيك هيغل والثورة السورية ... علي فاروق

يحيلنا منهج الجدل ‘‘الهيغيلي’’ في تحليل معطيات الفكر والفلسفة والظواهر الطبيعية إلى الثلاثية المشهورة: (الأطروحة – النفي – نفي النفي)، وهذا النفي الأخير هو ما يوصلنا إلى ما يُعرف أيضاً ‘‘بالتجاوز’’، أو‘‘التركيب’’، والذي يعني أطروحةً جديدةً غير تلك الأولى، فنفيٌ جديدٌ للطرح الجديد، ثم نفي نفيٍ آخرٍ وهكذا، وبحركةٍ مستمرةٍ وعبر العلاقات المتصلة، بما يتيح تفسير تلك الظواهر والحالات المعروضة على العقل والفكر، وبما يؤدي إلى استنباط المبادئ والمُثل والقيم العليا، والتي قد يكون ‘‘الخير’’ أعلاها على ما يذهب إليه الفيلسوف المثالي الألماني "إيمانويل كانط".
وكانت عظمة وبراعة مفكرٍ وفيلسوفٍ عالميٍ هو "كارل ماكس" تتجلى في تطبيق قواعد المنهج الجدلي على حركة التاريخ والمجتمع، أي على الواقع، واستخدامها في تحليل الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي أدى به إلى إبداع نظريته ‘‘الشيوعية’’، الشهيرة أيضاً.
والسؤال الآن هو: هل يمكننا تطبيق القواعد الجدلية التي اقترحها "هيغل" ــ بالاستناد إلى السابقة الماركسية من حيث إمكانية تحليل الواقع والتاريخ وحركة المجتمع بها ــ على الثورة السورية وحركة المجتمع السوري اليوم، بما يساعدنا على محاولة فهم ما الذي يحدث، واستقراء ما ستؤول إليه الأحداث، وعلى أي شكلٍ ستنتهي ؟
والحقيقة أنه سؤالٌ صعبٌ للغاية، وجوابه ربما يكون أصعب، بل إن طرح هكذا تساؤل في ظل ظروفنا الراهنة التي نعيشها داخل سوريا، قد يبدو من قبيل الترف الفكري، أو التباهي الثقافي الاستعراضي، بما قد يصل حد ‘‘الفذلكة’’، التي لا تسمح بها ظروف الزمان، ولا المكان، ولا الوقائع اليومية الدامية، ومع كل ذلك فالذي يبدو لنا أنه لا ضير إطلاقاً من إعمال النظر واستخدام الفكر ومناهجه لمحاولة تفسير وفهم وتحليل ما يحدث، واستقراء التطورات المختلفة، وأكثر من ذلك، ربما من الواجب على كل من يحمل شيئاً من الوعي والمعرفة والثقافة ــ وأنا لا أدع بأية حالٍ امتلاكي شيئاً من ذلك ــ، أن يستخدم ما يحوزه من أدواتٍ علميةٍ وعقليةٍ ومعرفيةٍ، ويسخرها بعد إعمالها وإنزالها في مواضعها الصحيحة، أقله، بما يساهم في إنجاح الثورة، ورفع الظلم، وإحقاق العدل، وإرساء القيم، تمهيداً لتأسيس مجتمعٍ جديدٍ، وأمةٍ جديدةٍ، ودولةٍ جديدةٍ.
وقبل الشروع في محاولتنا تلك، علينا أن نعترف بأن المجتمعات العربية والمجتمع السوري خصوصاً، قد بقيت لما يزيد على (50) سنة خارج مسار التاريخ، فقد نجحت الأنظمة الديكتاتورية العربية، ونظام البعث والأسد بتعطيل دورانه، عبر تحطيم المجتمعات، ومصادرة الفكر، وسحق الحريات، وإشاعة الإرهاب، وتعميم الفوضى واللاقانون، فأصبحنا نعيش في حالةٍ مركزها الخواء، والهامشية، واللاعقل، واللامنطق، وكانت أداة الديكتاتوريين الأساسية في تحقيق ذلك هو العنف والقوة بأشكالها، بمقارباتٍ همجيةٍ وبدائيةٍ لنظرية الواقعية السياسية ــ وإن أتت في نطاق السياسات الداخلية لا الدولية ــ بهدف التخليد في الحكم، وتوريثه للأبناء فيما بعد، مثبتين بذلك ــ ولو مؤقتاً بطبيعة الحال أيضاً ــ صحة مقولة المحافظين الجدد، ومفكرهم "فرانسيس فوكوياما" عن نهاية التاريخ، وهيمنة القوة على الأحداث والواقع وصياغة تشكيلاته، وحتى قبل أن يجهر "فوكوياما" بنظريته عن العلاقات الدولية تلك، وهذا ما يعني والحال كذلك أن تطبيق الجدل الهيغيلي ‘‘الديالكتيك’’ على أوضاعنا وحركة مجتمعاتنا وتاريخنا قد يبدو أمراً عصياً أو مستبعداً.
على أن ثورات الربيع العربي، والثورة السورية تحديداً قد أصابت مقولة "فوكوياما" في مقتلٍ، فالقوة لا تساوي شيئاً أمام إرادة الشعوب وتوقها الفطري إلى التحرر والانعتاق، والتاريخ وإن توقف لفتراتٍ عارضةٍ مؤقتةٍ، إلا أنه لم ولن ينته بحالٍ من الأحوال ما دامت الحياة مستمرةً، والإنسان موجوداً، وعليه والحال كذلك أيضاً، مازال بإمكاننا إعمال الفكر ونظرياته مجدداً ومنذ اللحظة التي استأنف فيها التاريخ والمجتمع حراكه وتفاعلاته الوليدة.
وبالعودة إلى منهج "هيغل" وتطبيقه على تفاعلات وحراك المجتمع والثورة السورية، ونحسب أنه بإمكاننا تطبيق تلك القواعد على ظواهر كثيرةٍ جداً، لكننا سنقتصر على بعضٍ منها فقط، مثلاً: أسلوب عمل وحراك الثورة العام، أولاً، وتشكيلات المعارضة السياسية والثورية، ثانياً، ولنطرح تساؤلاتٍ، هي:
في الظاهرة الأولى: يمكننا وبافتراض أن المرحلة السلمية كانت تشكل ‘‘الأطروحة’’، والمقاومة العسكرية المسلحة شكلت ‘‘النفي’’، فعلى ما تنفتح آفاق ‘‘التركيب’’ أو ‘‘التجاوز’’ الذي سنحصل عليه, فيما لو حاولنا نفي النفي ذاك، أي نفي منطق السلاح والنشاطات العسكرية وإنهاؤها مستقبلاً، هل يمكننا بناء مجتمعٍ ودولةٍ مدنيةٍ ديمقراطيةٍ على أنقاض الإقطاعيات العسكرية، وأشباح الإمارات الظلامية القائمة حالياً، وهل سنحتاج إلى ديكتاتوريةٍ وطنيةٍ مؤقتةٍ، لتحقيق ذلك، على ما يذهب إليه كاتبٌ ومناضلٌ لامعٌ ك"ياسين الحاج صالح"، لتثبيت وفرض ذلك ‘‘التجاوز’’ الإيجابي في واقعنا ؟
في الظاهرة الثانية: يمكننا أيضاً وبافتراض أن إنشاء التنسيقيات والهيئات الثورية كانت ‘‘الأطروحة’’، وإنشاء المجالس المحلية ــ الموحى بها خارجياً ــ كانت ‘‘النفي’’، فما الذي ستفضي إليه ‘‘التركيبات’’ و‘‘التجاوزات’’ التالية لنفي النفي، هل هي مؤسسات حكمٍ وإدارةٍ سياسيةٍ ومجتمعيةٍ فاعلةٍ، تكون نواةً للدولة السورية المرغوبة، أم سيحول تذري المجتمع، وتفتت البيئات المحلية، وانهيار الدولة كفكرة ومؤسسات دون ذلك ؟
وأيضاً إذا ما نظرنا إلى تشكيل المجلس الوطني ككيانٍ سياسيٍ معارضٍ ك‘‘أطروحة’’، وإنشاء الائتلاف الوطني لاحقاً ك‘‘نفيٍ’’ لتلك الأطروحة، فهل من الممكن أن يفضي الكيان المعارض الموعود الجديد الذي سمعنا عن قرب إطلاقه، والذي قد يمكن اعتباره ‘‘تجاوزاً’’، إلى الوصول إلى الجسم السياسي المطلوب لقيادة الثورة، وتحقيق أهدافها، وهل سينجز هذا الكيان لاحقاً عملية وضع الأسس النظرية، والدستورية، والمؤسساتية، للدولة والمجتمع السوريين الجديدين ؟
قد نمتلك جواباً أو بعض جوابٍ لهذه التساؤلات، لكن علة إبقائها مفتوحةً دون جوابٍ، هو محاولتنا تحريض جميع المعنيين على إعمال نظرهم وإيقاد فكرهم لاجتراح أجوبةٍ مناسبةٍ لها، ولغيرها من الظواهر والتطورات والأحداث التي تشهدها سوريا اليوم، مجتمعاً، وثورةً، ونظاماً، ومن ضمنها تفاعلات الأطراف المحلية، والإقليمية، والدولية، والتي قد يصح لدراستها، وتحليلها، ونقدها، واستشراف آفاقها، ومآلاتها، المنهج الجدلي ‘‘الديالكتيكي’’، أو قد لا يصح، ويكون غيره من المناهج العلمية أصلح، أو لعلنا نكون أمام واقعٍ تنطبق عليه شروط ‘‘الديالكتيك السلبي’’، مثلاً، وهي الحالة التي لا يتم فيها تجاوز لحظة (الإثبات – النفي)، إلى لحظة (نفي النفي)، وبالتالي يبقى الأفق مفتوحاً رهيناً للضبابية، وغير قابلٍ للتحديد الإيجابي على ما ذهب إليه الباحث "محمد عابد الجابري" في مقالته عن ‘‘النقيض’’، وأسباب تحقق ذلك متعددةٌ، قد لا تشكل ‘‘سريالية’’ التطورات والمشاهد، وجنون القتل، وعبث اللاعقل، السائدة اليوم، إلا أرضيتها الأولى.
أخيراً نقول بأن من واجب الجميع العمل لتسخير كل الطاقات والمعارف والعلوم في محاولة الوصول إلى الغايات والتطلعات النبيلة، وهذا ربما يلتقي مع دعوات كاتبِ ومناضلٍ ك"ياسين الحاج صالح" المتكررة إلى إنتاج المعرفة والثقافة، وإذ نشدد على مركزية ولزوم المعرفة كشرطٍ أساسيٍ لتَعَرف ذواتنا، وقيامة مجتمعنا، وتأسيس دولتنا، إلا أننا نعطي أولويةً الآن وفي هذه المرحلة لفكرة إنتاج الحرب ــ بمعناها الإيجابي طبعاً ــ، والذي نقصد به مقاومة نظام الأسد، وأمراء الحرب، والتكفيريين، بالسلاح، وبالصمود، وبكل الوسائل المتاحة الأخرى.
فشرط بناء دولتنا، وإقامة مجتمعاتنا، مرهونٌ أولاً وقبل أي شيءٍ آخرٍ, بانتصارنا، وباستمرارنا على قيد الحياة.

(144)    هل أعجبتك المقالة (146)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي