لاحظت أن ابني الصغير رامي بدأ بالابتعاد عني منذ فترة فقررت البحث عن طريقة تلغي أو تخفف من فارق الأجيال بيننا، فهو يهرول كالأرنب نحو العشرين من العمر وأنا أزحف مثل السلحفاة نحو الخامسة والستين، فما هو الشيء المشترك الذي يمكن أن يجمعنا بعد أن فرّقتنا الأعمار؟
بحثت طويلا عن الجواب لوحدي، رغم معرفتي وصداقتي لعدد من المختصين بشؤون الشباب، فأنا بطبعي كتوم، ولا أحب أن يتدخل الغرباء في خصوصيات أسرتي، رغم أنني أنشرها كلها، ولكن لي من وراء نشرها هدف هو إغاظة الناس، المهم أنني أخيرا اهتديت إلى قاسم مشترك بيننا ألا وهو عشقنا للصبايا، وهكذا دعوت ابني إلى مشوار مسائي في أحد شوارع مونتريال الذي يعج عادة بالجميلات و"المظلطات" والمستورات، والقادمات من كل بقاع الأرض، وأثناء تعليقنا على كل فتاة تمر قربنا مدحا أو ذما، قلت له: هل تفضل الشقراوات أم السمراوات أم السوداوات، العربيات منهن أم الكيبيكيات؟ قال أنا أفضّل الجميلات من كل الألوان، وشخصيا أفضّل العربيات، رغم أنني لا أعرف أي بلد عربي حتى الآن، بما في ذلك سوريا، كما تعرف، وأنا هنا أحسدك لأنك تملك وطنا آخر، فأنت كندي وسوري بينما أنا كندي فقط.
قلت لابني: هل تحسدني لأنني مشتت الولاءات؟ قال سأروي لك القصة التالية كي تعرف بعض العذاب الذي يعانيه إنسان مثلي: لقد ولدت في كندا، ولم أزر أي بلد عربي، وما ذلك فأبناء البلد ينظرون لي ويتعاملون معي كعربي منذ اللحظة الأولى، قد يكون هذا السبب هو لوني الأسمر، إن عيونهم تقول لي بوقاحة أنت لست منا، فعد إلى وطنك، المشكلة يا أبي أن لا وطن آخر لي، لذلك قلت لك أحسدك، فأنت تملك وطنين.
الحديث السابق جرى بيني وبين ابني البارحة مساء، وتذكرت رغم ضعف ذاكرتي، أنني قرأت في زمن ما شيئا مشابها له. بحث ووجدت أن المرحوم أنطون مقدسي قد قال ذلك في إحدى مقابلاته: "حين سافرت إلى فرنسا للدراسة كان لدي مزاج كوزموبوليتي متفتح ولكن الفرنسي أيقظني بفظاظته. قال لي أنت لست من هنا...أنت لست فرنسيا ولا أوروبيا. أنت آخر."
وفهمت ابني وأنطون مقدسي أكثر عندما جرى صباح اليوم حديث مع أحد زبائني الفرنسيين، الذي أصر على حق الغربيين بالخوف من "الإرهاب الإسلامي" المتنامي في سوريا. وعلمت أثناء الحديث، أن الخوف الغربي في العمق ليس من الإرهاب الإسلامي وإنما هو من الإسلام بحد ذاته، وذلك عندما برر لي الخوف الفرنسي من انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، فهي بلد إسلامي كبير ويمكن لسكانها الشباب أن يغيروا في التركيبة السكانية لأوروبا، ويفرضوا "علينا" فيما بعد عاداتهم ومعتقداتهم ونمط سلوكهم، وربما "إرهابهم". وعندما حاولت أن أقنعه أن استيعاب الأتراك المسلمين وضمهم إلى الاتحاد الأوروبي، وإتاحة الفرصة أمامهم للتعرف عن قرب على العالم المسيحي وقيمه الحضارية في الديمقراطية وحقوق الإنسان وكافة العلوم سيجعل منهم جيرانا مقبولين وبعيدين عن التطرف، لأن التطرف يأتي عادة من التعصب والظلم والجهل بالآخر، فما دمتم خائفين من الإرهاب الإسلامي، فلماذا لا تعطون أنفسكم فرصة تفكيكه من خلال استيعاب المسلمين بدل طردهم ومحاصرتهم؟
وكان جوابه الأخير لي مدهشا عندما قال: نحن لا يمكن أن ننسى أن العثمانيين حاصروا "فيينا" لعدة سنوات، وأنهم احتلوا أجزاء هامة أخرى من القارة الأوروبية، حتى أنهم هددوا الفاتيكان أكثر من مرة، فكيف ننسى ذلك، وتريدنا الآن أن ندخلهم إلى الاتحاد الأوروبي؟
بعد هذا الحديث المؤلم، ازداد غضبي على بيت الأسد وعلى كل الديكتاتوريين العرب والمسلمين، فلولا قتلهم لشعوبهم وتدمير بيوتهم ونهبهم لأملاكهم لما كنا مضطرين أن نهاجر إلى بلدان لا ترى فينا إلا إرهابيين أو إرهابيين محتملين، لا فرق في ذلك بين المسيحي السوري أو المسلم السوري، فكل عربي هو مسلم وكل مسلم هو إرهابي، والحل الوحيد أمامنا هو الاستمرار في الثورة السورية والانتصار على الاستبداد، فذلك طريقنا للحرية والديمقراطية.
في الخاتمة قلت لابني: علينا جميعا أن نطرح على أنفسنا السؤال نفسه الذي كان المرحوم أنطون مقدسي قد طرحه على نفسه وهو طالب في فرنسا: من أنا؟
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية