اللحية الثورية وحماية الأقليات

لا ينبغي أن يندم أحد على سيل التعنيف اللفظي والفكري الذي قد يتلقاه بعد وجهة النظر المكتوبة والناقصة من إتمامه للفضاء المحيط بها بحوار أو توضيح ، لذلك أرى الأفضل أن ترمى جهالة الإجماع والتوافق وراء الظهر، وأن يصبح أي فينا متأكداً أن صوته وإن كان خفيضاً ويمثل دواخله وسيل تأملاته، أهم وأنصع من طبقة صوتية وفكرية مستعارة هدفها تسول ضجيج التصفيق الذي يتلاشى بالسرعة التي انطلق بها، والاستعانة على قضاء حوائجنا العقلية بالكتمان جبن وخوف ليس أصيلاً ... بدليل أن مداولتها بين الناس وإن جلدوا لسانك ...ما هو إلا تأكيد على اختلافك وأسلم الطرق لبناء جنون خاص في الجنون العام .
سقط الإسلام السياسي بكامل تنظيراته وسلوكياته ، وتهشمت أحلام مريديه على مذبح الواقع والممارسة … والله لم يعد مفهوماً موحداً عند نسبة لا بأس بها من الإسلاميين أنفسهم ...إذ تشظى إلى حالة تساؤل عن وجوده، من خلال مناجاة أقرب للنفي من التضرع، فصار طبيعياً أن تسمع أحدهم يقول: أين أنت يا الله، حتى وإن كانت اللحظة الانفعالية هي من نطقت بلسانه وجاءت على شكل طلب للنجدة.
لكن إصرار البعض على أحلام إعادة اختبار الإسلاميين ومنحهم الثقة صار ضرباً من الجنون القيمي والنقدي ...فكم حالة فشل تريد حتى تعرف أن مشروعك خاسر، وأن حبك للثورة على الاستبداد الخارج من الأشخاص أقل فتكاً من الاستبداد الخارج من فهم مغلوط أو صحيح للنص!.
فبعد سقوط آخر أحلام الإسلاميين في إقامة الدولة (الله) في مصر، على إثر الانقلاب الذي أحدثته شريعة مضادة هي شريعة العسكر، صار لزاماً على أي متعقل أن يعيد حساباته فيما يخص ثنائيات /القدوة ، السلف/ ، /البطل ،الماضي/ ، /الزمن / النموذج/ إذ لم يكن مدهشاً سقوط التيار الإسلامي في قيادته للدولة أكثر من مرة وفي أكثر من بلد ...الغريب هو السرعة في الانهيار وإشهار الإفلاس ومن ثم تسليم السلطة بحب أو بكره للعسكر، فكأن قدر منطقة الشرق الأوسط برمتها ، أن لا يكون مكان لأي نظام خارج عن هاتين العلتين ..الإسلام السياسي أو العسكر القاتل .
فاللحية الدينية النافية للآخر وما يقابلها من مفهوم الجزمة العسكرية في الطرف الذي يريد إفهامنا أنه مختلف وثائر ضدها ـ يتنافسان على أكلنا والتهام مفهوم الدولة الجمع وتكريس الدولة الفرد منذ الأزل ،استناداً إلى نصوص ليست إنسانية على ما تقول الأسطورة ..فالله واحد ..والجنة والجحيم واحدان، والجنرال واحد، والخضوع للحاكم واجب إنساني وأخلاقي
أسلم الطرق في هذا الجنون، أن تتذكر حقك وتنسى واجبك ، والحق الوحيد هنا هو الثورة على عملة بوجه واحد وجزمتين.
لكن كل ذلك لا يمكن أن يجعلنا مرضى بداء الإسلاميين الحالمين بمشروع يخصهم ، وأن نوافق على اعتبارهم آفة العصر كما تريد أن تفهمنا دولة العسكر الموجودة في دمشق ومصر...وأن تكون الخصومة الفكرية معهم محاولة لقتلهم بالمعنى الواقعي لمفردة القتل وليس بالمعنى الدلالي أو الفكري ... فخلافي مع الإسلاميين بتوجهاتهم السياسية المنبثقة - حسب وهمهم - من الشريعة شيء ..وأن أجعل منهم خطراً على الهوية الوطنية شيء آخر، إذ كيف يمكن لدولة أن تمارس انحيازاً لدين أو طائفة وتقول في النهاية إن صمود الدولة مرتبط بقتل هؤلاء وتصفيتهم ، وكيف يصفق البعض بوعي أو دونه لهذه الفرضية القاتلة والتي بدأت تأخذ مفعولاً مضاعفاً ومريدين كثر ...وكيف تتجرأ الدولة على طرح شعار سافل في بنيته كشعار (حماية الأقليات) ...عن أي أقليات تتحدث الدولة (الفراغ) وعن أي أكثرية ، الدولة تحمي مواطنها وتحمي حامل هويتها ، وعندما تدخل في خطاب ساذج عن حماية مجموعة بعينها ..فإنما تنفي صفة الدولة عنها برضاها ودون خجل ، وتكرس فكرة الميليشيا التي تخالف من حيث الجوهر فكرة السيادة والحدود .. فهي مفتوحة بشكل قصدي وفاتحة بابها لأي طارق يريد الاعتداء على الطائفة التي لا تريد حمايتها أو ليس المنوط بها أن تفكر فيها أصلاً ...فهل يمكن لعاقل أن يقبل هذه الفكرة وبعدها يتهم الأكثرية بأنهم طائفيون !
الطائفية بدأ بها النظام وأسس لها منذ عقود ، ولكننا رفضنا هذا القول وانحزنا لفكرة أنه خليط بين عدة أكوام قمامة ...لنفاجأ دائماً أن النظام السوري يسبق في سرعة غبائه تشكل أي فكرة معاكسة ، إذ من الطبيعي أن تقول فرنسا إنها تريد حماية الأقليات في لبنان مثلاً، لكن من المضحك أن تقول بأنها ستحمي الأقليات في فرنسا نفسها ، ففي هذا القول لكمة قاضية لأي عقل يريد أن يقدم الدولة على أي انتماء آخر ..فكيف ستتصرف الآن أيها المواطن وأنت بين فكي مقصلة تقول وبمنتهى الوضوح : إما أن تكون مع العسكر أو مع الإسلاميين
أنا على الأقل ، مع الثورة الدولة ...ولست مع تيارات تخريب الدولة بشقيها العسكري والإسلامي ...والمصيبة أنني لا أجد لي مطرحاً في سوريا الجديدة أياً كانت.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية