أنا مع فرنسا..

فتحنا أعيننا- نحن السوريين- على الدنيا ونحن نكرهُ فرنسا.. لماذا؟ لأن حليب أمهاتنا التي رضعناها في المهود، وتعليمات أهالينا المتواترة، ونصائح حكوماتنا وأنظمتنا السياسية المتعاقبة، ومناهجنا المدرسية،... أرادت لنا ذلك.
كانوا يقولون لنا: فرنسا دولة استعمارية حقيرة! وحينما كان الأعمام المسنون يحكون لنا قصصاً قديمة كانوا يقولون، مثلاً: على زمان الفرنساوي.. الله لا يردُّه حصلت الواقعة التي سأرويها لكم..
وقالوا لنا، أيضاً، وعلى نحو أشد وضوحاً: إن فرنسا هي (الاستعمار) بحد ذاته، وهي التي تقاسمت بلادنا العربية مع بريطانيا بموجب اتفاقية سايكس بيكو، إذ أبرمتاها سنة 1918، ونفذتاها بدخول غورو إلى دمشق في الرابع والعشرين من تموز يوليه 1920.
ثم جعلونا نتخيل فرنسا وحشاً له أذنابٌ كثيرة موجودة داخل سوريا إذ أطلق البعثيون، خلال عهودهم المتتالية، على معارضيهم لقـب: أذناب الاستعمار.
في وسط مدينة إدلب شارع، كان (وما يزال) أحسنَ شارع في المدينة. فهو مستقيم، رصيفاه واسعان، نظام تصريف المياه فيه ذكي، ودقيق، ومحسوب على الديزم.. شُقَّ خلال الاحتلال الاستعماري الفرنسي (البغيض) لسوريا، وأُطلق عليه اسم "شارع فرنسا".. وكان أفضل إنجاز للحكومات الوطنية التي جاءت بعد الاستقلال أنها غيرت اسمه، وجعلته "شارع الجلاء".. نكاية بفرنسا الاستعمارية الحقيرة!.. ولا أدري إن كان الرفاق "التصحيحيون" قد أسموه، بعد سنة 1994 شارع الشهيد باسل الأسد، ولكنني متأكد من أن عدداً لا بأس به من مؤسسات الدولة الكائنة ضمن هذا الشارع قد حمل اسم هذا الفتى الطَيُّوب الذي (استشهد) على طريق مطار دمشق الدولي وهو سكران يقود سيارته بسرعة 280 كيلومتر في الساعة!.. منها ثانوية الباسل للمتفوقين، وصالة باسل حافظ الأسد للمؤتمرات (التي احتفظتْ باسم "صالة الخنساء" طيلة نصف قرن).
وقفت فرنسا الاستعمارية (الحقيرة) موقفاً إيجابياً من انقلاب حافظ الأسد في سنة 1970، بعد سنة 1991، حينما وافق البطل القومي حافظ الأسد على المشاركة ضمن القوات الاستعمارية (الحقيرة) التي ذهبت لتدمر جيشاً عربياً قومياً ارتفعت أسهمه لدى كافة الدول الاستعمارية، ومنها فرنسا التي لم تعترض- حتى- على تزوير الدستور السوري وتنصيب الفتى القاصر بشار الأسد وريثاً لأبيه!.. بل زادت في الطين بلة، وفي الطنبوريِّ نغماً، واستقبلت الوريث في الإليزيه، استقبال الفاتحين، وربما ربطت حصانه في اسطبل القصر الجمهوري الفرنسي ليصح الهتاف الديماغوجي البعثي القديم الذي كان يقول: ديجول خبر دولتك- باريس مربط خيلنا!
حسناً.. المهم في الموضوع..
لقد ثار ابراهيم بيك بن سليمان هنانو، ابن بلدة كفرتخاريم، وهو أحد أركان الحكومة الفيصلية، على الاستعمار الفرنسي، والتف حوله عددٌ من الرجال الرافضين لهذا الاستعمار، بعضهم ثاروا من منطلق الشهامة (الدفاع عن الأرض والعرض)، وبعضهم من منطلق قومي عربي (مع أن إخوتنا الأكراد حلفوا أيماناً معظمة على أن ابراهيم هنانو كردي!)، وبعضهم، كـ "الشيخ يوسف السعدون" مثلاً، من منطلق ديني إسلامي فأراد أن يجاهد ضد الفرنسيين الكفرة في قصير أنطاكية، بعدما كان يجاهد ضد الإنكليز الكفرة في العراق..
لستُ هنا بصدد الوقوف على الأسباب التي دفعت ابراهيم هنانو لأن يوقف ثورته فجأة، ويغادر كفرتخاريم إلى شرقي الأردن ثم إلى فلسطين في سنة 1921.. ولكنني سأتوقف عند الرواية التي أوردتها الكتب التي ألفها مناصرو ثورته في وقت لاحق، وفيها:
أن بريطانيا قبضت على هنانو وسلمته لفرنسا بموجب اتفاقية بينهما تتعلق بتسليم المطلوبين.
فرنسا سجنت هنانو في سجن فوق الأرض! معروف عنوانه! الزيارات العائلية مسموح بها!.. سمحت له بتوكيل محام هو "فتح الله الصقال"!!.. سمحت للصحفيين بحضور جلسات المحاكمة!!.. ثم إن هيئة المحكمة، أو كما يقول المحامون- السادة المحلفون- وهم فرنسيون استعماريون (حقيرون) اختلفوا فيما بينهم حول اعتبار ابراهيم بيك هنانو مجرماً جنائياً ارتكب أعمالاً تخريبية ضد قواتهم، أم أنه ثائر وطني يمتلك حق الدفاع عن وطنه؟
وللغرابة فقد فاز الاتجاه الثاني، وأعلنت براءة المتهم..
قوات الاحتلال الفرنسي، (الحقيرة)، كانت قد سمحت لعشرات الألوف من المواطنين الحلبيين أن يتجمهروا أمام قصر العدل، لم تضربهم (يُمَّا) بالرصاص الحي (كما غنى سميح شقير)، ولا بالـ (بمبكشن)، ولا حتى بالخراطيم المائية والمسيل للدموع.. وسمحت لهنانو أن يخرج من هناك منتصرا تحمله الجماهير على الأكف، وسمحت له، بعد ذلك، أن يعيش في منزله، مواطناً عادياً لا يجرؤ أخو أخته أن يقول له: ما أحلى الكحل في عينك!
خلاصة القول:
بالفعل فرنسا دولة استعمارية، وكانت قد اعتدت على سيادة بلادي، واحتلتها، دون وجه حق.. ومن يريد أن يفهم من كلامي أنني أدافع عن الاحتلال والاستعمار فلـ (يخسأ)..
ولكن.. هي مقارنة بين احتلالين، واستعمارين.. لا أكثر.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية