العلوية السنية.. تطابق أحمق

"واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد" جملة عشقناها وردّدناها، رغم ما فيها من عقلٍ محتالٍ أراد التذاكي على مدركاتنا مستفيداً من انشغالنا بالحدث الأعظم، وهو انطلاق أولى صرخات الاحتجاج في بلد لم يعرف تظاهرة منذ أن تسلم "حزب البعث" السلطة في سوريا عام 1963، حتى يوم الخامس عشر من آذار عام 2011.
لو كان واحداً لما احتاج إلى شعار لتأكيده، ولو كان واحداً لما حرفته عن مسيرته كل فصول العنف والتنكيل التي مارسها النظام السوري على مدار سِنِي الثورة.
ربما يكون المدخل فرصة لمراجعة شاملة لجزئيّات تنسف الأسطورة برمّتها، استناداً إلى الآلية الإجرائية التي اتبعها المفكر السوري صادق جلال العظم في كتابه "نقد الفكر الديني"، حيث استخلص مجموعة من التناقضات، أدت به إلى نسف الفرضيات الأولى التي بُنيت عليها الأديان السماوية.
من هنا آن الأوان لإزاحة الرأي العام من مخيلة أي منا، وتقيؤ قطيعه جملة وتفصيلاً، والدخول في عرض الذات، بعيداً عن الخوف منه ومن شتائمه المتواترة، وآرائه التي تنتقل بالعدوى كمرض الجدري، فعصر الإجماع قد انتهى.
ولكن مع ملاحظة أنّ خوفنا صار أكبر بعد الثورة، إذ كنتُ أمام عدو أعرف هيئته وشكله وأنماط اغتياله وطرق تعذيبه المميتة واستبداده المريض، إلاّ أنّني اكتشفتُ أن هذا الطاغوت أنتج شعباً على شاكلة أدواته، يمارس الاستبداد نفسه، وينطق المقولات ذاتها، رغم الاتجاهات التي تبدو منفصلة عن بعضها، إلا أنّها من منبع واحد، وتذهب إلى مؤدى واحد.
إن لم تكن معنا فأنت ضدّنا. إن لم تنطقْ بلساننا فأنت مارقٌ منافق، وإيمانك بالثورة هو إيمان الكافر الذي كان يشهر إسلامه تحت السيف. كيف تجدّف بآلاء الثورة أيها المخالف المنافق تحت حجة وجهة النظر؟
أليس هذا ما يحدث الآن؟؟
أليس الهجوم الطائفي المدروس من قبل العديد من مثقفي الثورة على الطائفة العلوية مشابهاً، من حيث المنبع العقلي الخبيث، لما فعله النظام عندما أسبع على الثورة سمات السلفية والإرهاب والعرعورية، بوصفها حالةً جمعيةً لما حدث في البلاد من حراك ثوري شعبي، لم يستطع حتى هو أن يحدد قياداته؟ أليس كلّ من خرج مظاهرة قابضاً للمال ومتآمراً وعميلاً؟ أليس التعميم هو القاسم المشترك بين ما يحدث الآن وبين ما حدث بالأمس؟
المصيبة الأكبر أن إعلانك الرفض لهذه الذهنية القميئة، والتي كانت المؤشر الأسهل في اكتشاف حجم مدركاتك العقلية، صار سفالةً ودفاعاً عن قتلة، وعن طائفة لا تنتمي إليها بقدر انتمائك للغة اليابانية أو الكورية، إلا من حيث المولد القسريّ والذي لا يعيب أحداً.
كنتم قتلة في بداية الثورة كما أخبرتنا قناة "الدنيا" بوضاعة تامة، فوقفنا معاً لمحاربة هذا الهذر القذر، فكيف صرتم قناة "سما"، بعد مرور ثلاث سنوات على الثورة، بعقل مقلوب وبشعار واحد؟
ما المطلوب مني وأنا أحد من ردد الهتاف النافق "واحد واحد واحد"؟ أن أشتم طائفتي كي أقيم بزنس شراكة مع طائفتك؟ أن أقبل أن يكون أبي قاتلاً وأبارك إدخاله إلى تعميمك العفن؟
من قال لك بأن أمّك أجمل من أمي؟ وحارتك أجمل من قريتي؟
ثم كيف تريدني أن أنساق مع مناضل سوري يتحدث عن "علوية سياسية"، وأقف مكتوف البنية العقلية مصفقاً لفهلوية التوافق مع السعار؟
وكيف أقبل كاتباً، أو ناشطاً، يُقدَّم على أنه "علوي"، دون أن يعترض أو يصحح للمحاور الذي يريد جره إلى منزلق قذر: لستُ كذلك، أنا سوري وحسب؟
عندما جرّمنا "سوق السنة" لم نفعل ذلك لقذارة التسمية وبعدها الطائفي فقط، بل لأنها تحمل قتلاً لأي خروج عن قمقم التبعية للكهف. ولأنها تحمل بعداً استرزاقياً سافلاً لجهد الناس وعرقهم وذاكرتهم. وعندما جرّمنا قذف البراميل التي تخصي قاذفها وتعريه أكثر من موت الضحية، لم ننظر إلى وسامة شكله أو قبحه، ولم نسمع حرف القاف أو الألف، ولم نفتش في سجلات النفوس عن طائفته.. لكنّ حين أفتش -وهذا ما حدث- سيكون لي شأن آخر غير إدانة الإجرام والحقد، سأكون مشاركاً في قتل الضحية مرتين، الأولى أنني استثمرتها لهدف لا يخص النبل بقيراط، والثاني لأنني شجعتُ غبيّاً يستمع إليّ على ذبح ضحية أخرى.
كيف لنا أن نقبل هذه الذهنية، وقد ارتدت فستاناً جديداً يحمل ذات الألوان، إلى درجة عدم القدرة على التمييز بين قديمها وحديثها، فأصحاب النضالات، غير المُكْلِفة، وأغلبهم من قاطني الـ"فيسبوك"، يمطرون أعصابنا بوابل من الإجبار على حالة التطهر من الطائفة، بحجة ألاّ نكون طائفيين كي نثبت أننا مع الثورة، ومع ما قدمه الشعب السوري على امتداد سني المذبحة. كأنّ من لا يعنيه ذكر الطائفة معابٌ لذلك. طهرانيّة عرقك، كما تراها، ينبغي أن يقابلها في الجهة المضادة وساخة عرقية، وهذا تقسيمٌ نازيٌّ كنت تحاربه منذ بداية طلوع أسنان وعيك، فما الذي حدث يا صديقي؟
الذي حدث أنك تطالبني بموقف ليس لي، ولا يمثلني، ولا يعبر بي إلى حالة الخلاص حتى من ضميري، ومن حقي عندها أن أبدأ المقارنة بينك وبين أستاذك؛ النظام القمعي الاستبدادي القاتل الذي جرّك كما تدعي إلى ساحته ببساطة ويسر. لماذا استجبتَ؟ ولماذا فعلتَ وأنت تعلم أنه متفقّه في الحرب الطائفية، منذ دخوله إلى لبنان ولعبه بطوائفها عقوداً وعقوداً؟ هل كنت تتصور فوزك عليه في أكاديميته الوقادة؟! وكيف كنت تتوقع أن تكون البديل؟!
للحقيقة كنتَ بديلاً بعقل واحد وأجسام متعددة. لا أنكر حقك في الاختصام مع طائفة، لأن ذلك قد يبدو مبرّراً جزئياً نتيجة الانفعال اللحظي فور ورود الخبر، لكن أن تتحول لحظة الانفعال إلى منهج عمل وجوهر تفكير ومنطلق سلوك، فهذا شرح لكذب قراءتك للقصيدة وسماعك للحن وتأملك للوحة وفرجتك للعمل المسرحي، وهذا إثبات أن الطلقة أقوى من قدرة عقلك، لأنّ دوياً واحداً استطاع وببساطة الانتصار على سنوات شكلّت خبرتك وأفقك، سواء من طلقة واحدة أو مليار. انتصرتَ وفق معادلة من الدرجة الأولى: نظام مجرم توقع ممن انجرفوا باتجاه تأجيج طائفي أن يهديهم ورداً، وعندما لم يفعل صاروا طائفيين.
من المعيب المقزز أن يكون أيُّ نظام بُني على الطائفة موجوداً، لكن عليك إقناعي بالطريقة التي تريد بها تحويل طائفتك إلى نظام !
إن من لا يحترم شرف الخصومة لا يمكنه أن يعرف شرف الصداقة، وتعميمك هو إهانة لمفهوم الشرف ذاته، فالذي لا يصف خصمه بما فيه أكبر بمراحل من آثام هذا الخصم، بل أشدّ فتكاً من النظام المشابه لهما... والراعي الشريك في استمرار الدم.. والدم.. ثم الدم.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية