كيف نُجبر أبا حافظ على قبول "الحل السلمي"

خلال ندوة أقيمت في أحد منافي السوريين، تحملُ عنوان "الثورة السورية في عامها الرابع" اقترح أحد الحاضرين ما يأتي:
- يجب على الثوار أن يتسلحوا جيداً، وأن يوحدوا صفوفهم، ويكيلوا لنظام المجرم الوريث بشار الأسد ضربات موجعة، تُجبره على الرضوخ لـ (الحل السلمي)!
حينما أتيحت لي فرصة للإدلاء برأيي قلت:
- ربما كان هذا الاقتراح صائباً، ووجيهاً، ولكنني أراه ينطوي على مفارقة تثير الدهشة! فالنظام السوري، مع بدايات الثورة السورية، كان من أكثر الداعين إلى الحل السلمي، ومن أكثر المدافعين عنه.. شريطة أن يكون الحل (السلمي) برعايته، وإشرافه، وقيادته، وعلى طريقته!.. وإليكم بعض التفاصيل التي تدعم هذا الزعم:
أولاً- إن الوريث الرئاسي بشار الأسد لم يكن، قبل الثورة، يلتقي بأحد من مؤيديه أو معارضيه، أو مَنْ كان على الحياد، إلا ضمن مناسبات ذات طبيعة إعلامية، تسويقية، بروتوكولية، من قبيل أداء صلاة العيد في أحد مساجد دمشق، أو دعوة بعض مشايخ الدين الإسلامي إلى مائدة إفطار في السابع والعشرين من شهر رمضان…
ومع بداية الثورة، وبقدرة قادر، أصبح قصرُه الجمهوري محجاً للمئات من السوريين القادمين من المحافظات، تدفعه رغبة مفاجئة، عارمة، إلى لقائهم، والاستماع إلى همومهم، وشكاواهم، وحتى رغباتهم!
بدت لنا هذه الخطوة، من حيث الظاهر، مقبولة، ولكن سرعان ما تَكَشَّفَ لنا أن فروع الأمن العسكري والأمن الجوي في المحافظات كانت هي المُخَوَّلة بانتقاء أعضاء الوفود!.. ولا بأس أن تستأنس برأي فروع الأمن السياسي وأمناء فروع حزب البعث العربي الاشتراكي! وكانوا ينتقون رجالاً خدموا النظام فترات طويلة ثم تقاعدوا، وآخرين من الأوادم العاقلين الذين يمشون بجوار الحائط ويقولون (يا رب سترك)، وبعض النقابيين، أو الناشطين ضمن أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية،.. وفي كل الأحوال يجب ألا يضم الوفد شخصاً واحداً من الثوار، أو المعارضين الحقيقيين للنظام!
وأمعن النظام السوري في تأكيد حسن نواياه في هذا المجال حينما أوعز إلى مَنْ يهمهم الأمر في المحافظات بأن يعقدوا ندوات، على مسارح المراكز الثقافية، يحضرُها أعضاءُ الوفود الذين قابلوا الرئيس، شخصياً، بقصد أن يحكوا للجماهير الكادحة عن الحب الكبير الذي يكنه لهم هذا القائد التاريخي، وعن الشَّغَف الذي أبداه وهو يستمع إلى مطاليبهم، وشكاواهم، وعن الاهتمام منقطع النظير الذي أبداه نحوهم، بدليل أنه أمرَ رئيس مكتبه باستلام شكاواهم المكتوبة، وإيلائها الاهتمام اللائق بها، وكيف وزعوا عليهم ورقة دونت عليها عناوين إيميلات القصر الجمهوري، وهواتف مكتب السيد الرئيس الثابتة والمحمولة، وذلك ليستخدمها مَن يريد أن يرسل شكاوى ومطاليب ورغبات للسيد الرئيس في قادم الأيام، وبكل الشفافية الممكنة!
ثانياً- لم يكن النظام السوري يسمح للسوريين أن يتجمعوا إلا في مسيرات التأييد للأب القائد، وأمام الأفران، وعلى أبواب المؤسسات الاستهلاكية، وعند أبواب مديريات مكافحة البطالة، ودوائر الشؤون الاجتماعية والعمل، وسفارات دول الخليج!.. وقد حدثت، في عهده حكاية طريفة تقول إن أحد ضباط المخابرات اتصل، ذات مرة، بصاحب مقهى "الهافانا" الذي كان يرتاده المثقفون، وقال له:
- يوجد عندك، الآن، تسعة أشخاص مجتمعون حول طاولة واحدة، العمى يضرب جوز عيونك، شو بدك تعمل لي في البلد انقلاب؟ يا الله فرقهم ولاه كر، خلي كل ثلاثة منهم يجلسوا على طاولة وحدة!
هذا النظام، نفسه، أصبح يسمح للسوريين، بعد انطلاق الثورة، أن يتجمعوا، برقم يزيد عن (التسعة) الخاصة بمقهى الهافانا، وليس سراً، أو عشوائياً، بل على نحو منظم ومتفق عليه، ولأجل معارضة النظام، هكذا، بشكل مقصود، أو، على قولة أهل سوريا الأحبَّة: عيْنَكْ- عيْنَكْ!
ولم يكن مصادفة- على ما أحسب- أن الاجتماع الأول لهيئة التنسيق الوطنية للقوى المعارضة قد عُقد في فندق سمير اميس، لأن هذا الفندق يقع في وسط العاصمة دمشق.. وبعد لأي من الزمان عُقد، في الفندق نفسه، اجتماع لهيئة أسمت نفسها (الطريق الثالث)، وفيها حصل موقف طريف للغاية، إذ أقدم الشبيح المدعو "زهير غنوم" على ضرب أحد الحاضرين على وجهه لأنه أدلى برأي معارض لنظام بشار الأسد.
ثالثاً- لم يكن نظام حافظ الأسد (ووريثه بشار) يسمح لأي واحد من أفراد الحاشية الرئاسية بالتحدث إلى وسائل الإعلام، أو الإدلاء بأي تصريح حتى ولو كان التصريح يتعلق بارتفاع درجات الحرارة عن معدلها السنوي.. ولكن أفراد الحاشية سيقوا، بعد بدء الثورة وشعور النظام بخطر السقوط، إلى وسائل الإعلام زمراً، وعينك لا ترى بثينة شعبان التي يعتقد السوريون بأنا وجهها (يقطع الرزق، ويسبب البلاوى) وهي تعد الناس بـ "جرزة" من الإصلاحات! يليها فاروق الشرع الذي كنا نعتقد بأن فمه يحتاج إلى تزييت وتهوية من طول السكوت بتصريح يتعلق بالتغيير والحوار!.. ثم "تَدَعْبَلَ" وليد المعلم- بجلالة قدره- إلى منصة مؤتمر صحفي ليقول إن على السوريين أن يتريثوا قليلاً (قليلاً فقط)، وسيكون لدينا في سوريا نظام ديمقراطي غير مسبوق!
رابعاً- كان السوريون يعرفون، حق المعرفة، أن النظام، بهذه الإجراءات الشكلانية التي بدا بتسويقها في بداية الثورة، كان يريد- فقط- أن نعطيه فرصة، ليعيد إنتاج الحل الذي انتهجه في الثمانينيات، حينما أباد كافة الأحياء التي يسكنها المتمردون عليه، وأزالها بالجرافات، ثم بدأ حملة مخابراتية استمرت سنوات طويلة كان يلتقط خلالها أي سوري يمكن أن يحمل في داخله بذرة معارضة له، ويعدمه، أو يلقيه في غياهب السجون لعشرات السنين، ودون أن تدري يده اليسر بما فعلت يده اليمنى.
ولذلك لم تنطلِ وعود الإصلاح على أحد.. والثورة استمرت. وسوف تستمر. ولا شك أن الحل السلمي جيد، ويحقن دماء السوريين الذين لم يقتلهم النظام وميليشياته القذرة حتى الآن، ولكن النظام، لم يقبل بأن يشاركه أحد في السلطة من قبل، وسعى إلى إفشال مؤتمر جنيف 2 للسبب نفسه، وسوف يحبط أي حل سلمي قادم، إلا إذا كان هذا الحل يضمن بقاءه واستفراده بالسلطة..
الحل السلمي جيد، ولكنه لن يتحقق من دون استخدام القوة وكسر شوكة النظام. هذا الكلام، حقاً، صحيح.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية