أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الأخلاق والثورة

عندما وصل حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970، وضع أمامه هدفا واضحا وهو تحويل سوريا إلى مملكة أسدية، وهذا ليس استنتاجا جديدا، أو اجتهادا، وإنما هو حقيقة كان يعرفها رفاق حافظ الأسد من العسكريين والمدينيين الذين وقفوا ضد مشروعه هذا، ودفع بعضهم حياته لقاء هذا الموقف. ولكي يحقق ذلك الهدف، وهو الذي يعرف تركيبة الشعب السوري، قرر عن وعي وتخطيط إفساد كل شيء في سوريا، وقد بدأ بالجيش، فرفع شعار "التوازن الاستراتيجي" مع العدو غطاء مارس تحته تفريغ الجيش من كل العناصر غير المؤيدة له، وصولا إلى حرب ٧٣ حيث انتقل بعدها لتصفية الجيش على أساس طائفي واضح، فضمن عدم الانقلاب عليه محققا الخطوة الأولى في تثبيت عرشه الأسدي.

أما في المجال السياسي، فقد استثمر النقد الذي كان موجها للقيادة البعثية التي كان وزير الدفاع فيها، بأنها غير ديمقراطية، فأعلن عن "ديمقراطيته" عبر إجراء انتخابات لما أصبح يُعرف فيما بعد بـ"مجلس الشعب"، وشكل "الجبهة الوطنية التقدمية"، حيث وضع كل الأحزاب المعارضة تحت جناحيه، فأفسد منها ما أفسد، وشق الأحزاب التي حاولت التمرد على الطاعة، وقدم رشوة إلى كل رئيس حزب وعضو مجلس شعب عبارة عن حقه باستيراد سيارة، أما من رفض الإذعان بعد كل ذلك، فكان مصيره السجن، كما حصل مع الإسلاميين والمكتب السياسي، وهو جناح رياض الترك في الحزب الشيوعي السوري. وكانت مجزرة حماه عام ٨٢ تتويجا لسياسته في تكميم فم المجتمع السوري بكامله، وإلغاء السياسة منه نهائيا حتى قيام الثورة.

في مجال التعليم، أصدر مرسوم إلزامية التعليم الابتدائي في سوريا دون أي تخطيط أو تأمين المدارس اللازمة والمعلمين والوسائل التعليمة، مما حول الطلاب في النهاية إلى أميين حقيقيين، وفي الوقت نفسه حرمهم من اكتساب المهن التقيدية. وتحولت الجامعات السورية إلى معامل لإنتاج العاطلين عن العمل والفاشلين دراسيا وخاصة الذين كانوا يحصلون على علامات إضافية لأنهم قفزوا بالمظلات البعثية.

في الاقتصاد لم يكن الأمر بعيدا عن ما جرى في بقية قطاعات الحياة، فقد تم ربط كامل الأنشطة الاقتصادية بالدولة، وتم تعيين مدراء عليها من اللصوص. أما في التجارة في تم إجبار التجار على اقتسام أرباحهم مع المخابرات وموظفي التموين، أو إجبارهم على مشاركة المتنفذين في الدولة والمخابرات.

ونتج عن كل ذلك، وحسب الخطط الموضوعة مسبقا، أن الأخلاق العامة بدأت بالتراجع إلى أن اختفت تقريبا، وحلت محلها أخلاق "أسدية" بامتياز، منها على سبيل المثال، أن الشريف أصبح اسمه"حمار"، وأن اللص أصبح يطلق عليه الناس اسم "الفهلوي" أو "الشاطر"، وأن الموظف الذي يقوم بواجبه أصبح يشكل وجوده تهديدا للأمن القومي، وأن الضابط الذي لا يرسل عساكر وحدته العسكرية إلى بيته للقيام بالأعمال المنزلية أو الزراعية أو أعمال البناء هو ضابط فاشل في الدفاع عن وطنه. وأصبحت العاهرة مثالا حيا عن التحرر، أما الكارثة الكبرى فهو ذلك الإنسان الذي قاوم كل الإغراءات السابقة وقرر أن يبقى نظيف اليد وللسان، ولأنه أصبح ضعيفا ودون سند فقد قرر الاعتماد على الله والاتكال عليه، فوقع عليه غضب نظام الأسد، فحوله إلى مجرم ورجعي ومتخلف وإرهابي وطحنه طحنا، وكانت مذبحة حماه عام ٨٢ هي الحجة على المجتمع السوري، فأصبح كل سني "إخوان مسلمين" يجب إعدامه، وكل مسيحي انعزالي من جماعة الكتائب اللبناينة، وكل درزي هو عميل لإسرائيل، ولم يبق أحد دون تهمة جاهزة مسلطة على رقبته، طائفية أو اقتصادية أو اجتماعية، والحل الوحيد أمام الجميع هو التواصل المباشر مع هذه السلطة القاتلة كعملاء لها ضد كل الآخرين، ولتكون هي الحكم الوحيد بين الجميع في النهاية.

كان قيام الثورة هو تعبير عن حاجة المجتمع السوري للتغيير، ورغبته في الخروج من تحت عباءة المستبد الظالم، ولكن من الشروط الأساسية لنجاح الثورة هي في إعادة بناء المنظمومة الأخلاقية التي دمرها آل الأسد، نحن بحاجة الآن إلى أن نسمي الأمور بأسمائها الحقيقية، فنقول عن اللص إنه لص وعن القاتل إنه قاتل وعن الخائن إنه خائن وعن العميل إنه عميل وعن الوطني إنه وطني، مهما كان لون الثوب الذي يرتديه، ومها كان الشعار الذي يرفعه، لأن السلاح والمال دون أخلاق سيكونان كارثة على الأفراد وعلى الوطن.

نحن بحاجة الآن إلى ثورة أخلاقية تبدأ من وسط الثوار قبل أن تعم جميع أطراف المحتمع السوري ليكونوا قدوة للآخرين، وهذا لا يعني أبدا التخلي عن أساليب الثورة الأخرى، فالنصر لا يتحقق من خلال أسلوب واحد، وإنما بالتعاون بين كل الأسباب، ولكن تبقى الأخلاق هي البداية. 

(136)    هل أعجبتك المقالة (143)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي