*اعتماد مدرسة مساندة
في كل الأنظمة الشمولية والعربية خصوصاً يعتمدون على الدين لكي يغطوا الشنائع التي يقومون بها من استبداد واعتقالات ونشر جهل وقتلٍ وتكميم أفواه وسرقة الثروات وما إلى هنالك من ممارسات أغلبها يتجه للعنف أو الترهيب أو الوعيد بالحساب الأخروي...
واختلفت المدارس التقليدية المصاحبة لتلك الأنظمة، فمنها عسكري يقربُ منه المتصوفة، ومنه ملكي يقرب السلفية وفي كلا الأنظمة يُستغل الدين لنشر ثقافة الرعب حيناً، وإدخال الناس بنصوص صحيحة لكن نحو المقصد الذي يريده الحاكم لا الإسلام عموماً.. كمصر العسكر التي تعتمد على الأزهر وغيرها..
أما النظام السوري على مدى نصف قرن، قرّب منه المدرسة الصوفية على اختلاف طرقها، أو وجد في بعض رؤوس تلك المدارس من يشرعن له ما يريد مقابل مجمع علمي يختص بما تقرره له فروع الأمن على اختلافها، أو بحلقات قرآن وحديث، أو حلقة لتعليم فقه الصلاة والطهارة والزكاة والصيام ... وإخراج كل الأركان من مقاصدها إلى عادات إسلامية خالية من أغلب معانيها، خالية من المقصد الشرعي المُراد من الخطاب القرآني الذي يبني النفوس ويعلمها أن تعمل وتبني لا أن تجلس في حلقات الذكر فقط !! ولو اقتصر الأمر على حلقات الذكر لكان الأمر هيناً، بل إنشاءُ طلبة العلم الشرعي أو رواد تلك المجاميع على أفكار تخرجُ المسلم من اللب المُراد من القرآن إلى مجرد أذكار وحرز وتقديس مشايخ وعلماء ثم جماعات وكتل حزبية دعوية لا تقترب من السياسة طبعاً على حساب الإسلام الجامع والذي يسمى أولاً دين التوحيد لا الفرقة !
وتعريف الجهاد بأنه جهاد نفسٍ لا علاقة له بقول الحق في وجه السلطان مثلاً، فكان أي نقد للنظام هو خروج عن الخط المرسوم ونهايته السجن أو الطرد بأفضل الأحوال ...
*الصوفية المتعددة وجهٌ مناسب
استطاع الأسدُ الأب شراء ذمم شيوخ لها صيتها وواجهتها العلمية بالمناصب والأموال والترهيب، تحبذ في الدين حكم التغلب والذي يصلُ عادةً إلى سدة الحكم بالقتل والتنكيل والدماء لا بالمشورة، أو بالتوريث كحالتنا مع النظام الذي يدعي الديمقراطية والجمهورية، وكل ما يفعله يُنمي عن سفاحٍ همهُ الأول الحكم وسرقة أموال الشعب بالباطل وبسط النفوذ ومرض العظمة والتغلغل أكثر في أعماق الفساد، في حين أن منهم بدأ به الأمر بمجرد طرف في الحكم من الناحية الدينية إلى عبدٍ يطيع ويؤول ما يراه المستبدُ حلالاً وما يرتضيه حراماً وكل ذلك بتطويع النص الشرعي إلى الناس عن طريق طلبة مُجمَعاتِهم الذين انتشروا وتغلغلوا في المجتمع السوري الإسلامي الأقرب للاعتدال وحب التدين عن طريق المساجد والمعاهد والبيوت.
استطاع النظام الحاكم أن يحول المجمعات العلمية الكبيرة قبل وصوله من جامعات علمية يُقبلُ عليها كل طلبة العالم الإسلامي إلى زوايا للموالد والحضرات وحلقِ الذِكّر بدل نهل العلم من فقه وعقيدة وتفسير وأدبٍ وسياسة شرعية حتى ملّ الناس وتراجع المحصل العلمي الشرعي تراجعاً بائساً جداً وإن كانت كلية الشريعة في جامعة دمشق، منهلاً ثقيلاً خرّج أساتذة ومفكرين قبل قدوم البعث كمصطفى السباعي وعلي الطنطاوي وعصام العطار، وما يعرف بمسجد الجامعة وغير ذلك، وكان هناك شيوخٌ ناهضوا النظام على منابرهم فكان مصيرهم القتل كالشيخ حسن حبنكة الميداني رحمه الله ...
ومع بدء الثورة السورية قبل ثلاث سنوات انضمت فئاتٌ كبيرة من الشعب من كل تلك المدارس الدينية الفكرية المتنوعة ولكن كانت الغالبية من الصفوف المتأخرة لا في الرؤوس، ولذلك لم نلحظ وجود مؤثرين منهم بأيٍ من الفعاليات الثورية على نحو واسع، وإن كانت كليات الشريعة في دمشق أو حلب كمثال الأقل امتثالاً لمنهج النظام، لأنها ليست تابعة لشيخ معين أو صاحب طريقة محددة، وكان ذلك ملحوظاً جداً في خطب الجمعة والدروس اليومية في المساجد وهو تعريف المؤامرة التي تضرب البلاد والنظام الممانع والمقاوم وازدراء المتظاهرين إلى حد تضليلهم أو تكفيرهم، لكن ذلك لم يؤثر كثيراً على خط الثورة، لأن الظلم طال البيوت الفقيرة والمتوسطة بشكل فاعل، والتمييز الطائفي الواضح في كل مؤسسات الدولة ومناحي الحياة، إضافةً إلى محاربة كل الجماعات الإسلامية السياسية بدءاً بالإخوان المسلمين الأقدم والأعرق ولا سيما حزب التحرير وجماعة زيد وما سواها..
غير أن وزارة الأوقاف والتي كانت تتحكم بمواضيع الخطب ووصل الأمر إلى إيقاف أذان الإقامة على مكبرات الصوت في السنوات الأخيرة قبل الثورة، أما الجماعات شبه الرسمية، فكانت أغلبها تحت منهج صوفي بحت وإن امتازت بأسماء مؤسسيها كـ "الكفتاريون" أو "مجمع أبو النور" والذي أسسه مفتي الجمهورية الشيخ أحمد كفتارو الكردي القومية، أو معهد الفتح والذي أسسه رجلٌ عُرف عنه الصلاح الشيخ صالح الفرفور رحمه الله، لكن ابنه كان رجل السلطة بلا منازع حسام الفرفور ومن معه إضافة إلى الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي الذي توفي باغتيال مبهم في أحد دروسه في جامع الإيمان وسط دمشق، والذي عُرف بمساندته للنظام منذ الأسد الأب أثناء أحداث حماة وضمن الثورة وبمهاجمته للثوار بأبشع الأوصاف وصلت لحد التكفير حيناً وعُرف بمدرسته الخاصة وإن كان تسلم عمادة كلية الشريعة في دمشق مدة طويلة ، وإن انشق عن الكل شيوخٌ كُثر وطلاب علم والكثير منهم حمل السلاح بعد عسكرة الثورة، كان لهؤلاء تزاوج علني مع السلطة الرسمية ومع الهيئة الدينية التقليدية في سوريا وغير هؤلاء كثير، فكان النظام لا يمانع أبداً من الإكثار من الموالد ومجالس الصلاة على النبي، وإحياء ذكرى المولد النبوي بحضور الرئيس والذي يتحول من موشحات وابتهالات في مدح النبي إلى مدح الرجل الأول في الدولة وهو الرئيس وخطابات أقرب إلى دروس بحب حزب البعث منها إلى الإسلام، وغيرها من احتفالات بمنتصف شعبان وليالي رمضان وصلاة العيد والتي أصبحت ملاذاً لإظهار الرئيس أنه على قيد الحياة ضمن الثورة السورية على مدار السنوات الثلاث الماضية.. بل ولم يمانع النظام أبداً من إنشاء معاهد لتحفيظ القرآن سميت "معاهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم"، وأنا كنت حاضراً بتلك المعاهد كطالب لحفظ القرآن ومن ثم إداري، مما وضح لي كيف يتعامل الأمن مع شيوخ هذه المعاهد، فكانت زيارات أساتذة المعهد لفروع الأمن أكثر من المساجد وحلقات العلم بشكل لا يحتمل مما دعا الكثير من الشيوخ إما لأن يصبح مُخبراً للأمن، أو أن يعتقل لأنه يأبى أو أن يترك المشيخة ويتجه لأي عمل آخر ...
*قناةٌ دينية بعد غياب طويل
ومع بداية الثورة أنشئ النظام قناة دينية "نور الشام" تُعنى بالدروس الدينية والوعظ وتأييد النظام بلا شك والإنشاد والقرآن وفي الأسابيع الأخيرة أصبحت تنقل القناة لحضرات أو موالد لم تنقل من ذي قبل على الشاشات من قلب العاصمة دمشق ((يكتب على ذيل الشاشة بأنها مولدٌ ومجلس صلاة على النبي من أجل كشف الفرج عن البلاد على الطريقة الصوفية النقشبندية أو الشاذلية أو ...الخ))، ولستُ هنا بصدد تعريف هذه الطرق وعلاقتها بالإسلام، لكن يلحظ المتابع أن الأمر فيه رسائل سياسية واضحة وخصوصاً مع اقتراب الانتخابات الرئاسية التي يقيمها النظام، فمن المعروف أنه لا يقرب قنوات النظام إلا مؤيدوه أو من يرضى عنهم الأمن والمخابرات، لذلك نلحظ أن مثل هذه التجمعات والتي تنقل مباشرة وبحضور رسمي ممثل بمدير أوقاف أو وزير أو شيخٍ يمثل السلطة هي رسالة واضحة أن هؤلاء الدمشقيين "السنة" هم معي بل وأنا أدعمهم بوزارة الأوقاف التي هي جزءٌ من حكومتي القائمة، وتقام في أكبر المساجد وسط دمشق وأعرقها وهو الجامع الأموي "المحتل والمحاصر بآلاف الشبيحة والمليشيات الشيعية"...
وبعينٍ أخرى ترى العجائب في هذه التجمعات بتعداد لا يتجاوز المئات أنها أقرب لحفلات رقص وتمايل وكلماتٌ غير معروفة أصلاً ينطقون بها، وغالبية الشعب لا يحبها لأنها ليست من روح الإسلام النقي، المعروف بوضوحه، وقربه من العقل والقلب على سواء، وفيه من الروحانيات ما ينبذ تلك الأفعال المصطنعة والتي لا تكشف بلاءً إلا برحيل القاتل أو موته أو فنائه، وبالطبع لها روادها ومناصروها، وكان اجتماع بشار الأسد الأخير مع رجال الدين يوضح لدرجة كبيرة من تبقى يساند النظام، ويستمع لذاك المفكر والتي وزعت له وزارة الأوقاف كتاباً تحت اسم "فكر السيد الرئيس بشار الأسد" بشيء أقرب للسخرية، وإن كان حديثه معهم مدعاة للضحك على الانحدار بالمستوى الديني إلى هذا الحد من أشخاص يدعون بأنهم رجال علم، أو علماء المسلمين، وإن كانت الوحدة الوطنية حاضرة تماماً هذه المرة حيث كان يجلس بجانب المفتي السني شيخُ عقل للدروز وبجانبه آخر للمرجعية الشيعية وشيخٌ للعلويين وبكثرة للسنة وهو الطرح الجديد الذي لم نعهده من قبل مع نظامٍ يعتر نفسه حامي الأقليات ...
وبذلك استطاع النظام خلط الأوراق الدينية بتطرف آخر يميل إلى تأييد الظلم على حساب الأخلاق والدين، بل واعتبار ذاك المنهج هو المنهج الرسمي للسلطة القائمة على أساس عقائدي علماني وإن كانت الحقيقة مغايرة تماماً.
ناصر زين - ريف دمشق - مشاركة لــ"زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية