أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

دشداشة "المجاهدين"

يتعلم الإنسان العاقل من تجارب من سبقه في العمر والتجربة أن "البني آدم" كلما طعن في السن يزداد عدد الناس الذين ينصّبون من أنفسهم أوصياء عليه، وخاصة عندما يفقد، أو يتخلى طواعية، عن عناصر القوة التي كانت بين يديه، من مال وجمال وسلطة، فيتحول إلى ألعوبة في أيادي القريبين والبعيدين عنه، كما هي حالتي الآن، إلا أنه قد يثور أحيانا نتيجة وجبة دسمة، أو رؤية فيلم سينمائي يحرض على رفض الاستبداد، لذلك قررت البارحة أن أستعيد حريتي وأذهب وحيدا لشراء بعض الأغراض الشخصية لي، بعيدا عن وصاية زوجتي وذوق ابني الكبير "البرجوازي"، وذوق ابني الصغير "المراهق".

وبعد أن أجريت الاتصالات والتحريات الكافية التي أكدت لي انشغال الجميع بهمومهم الشخصية ونسيان هموم السوريين، جمعت ما يمكن جمعه من الأموال والقروش البيضاء التي كنت قد ادخرتها للأيام السوداء، وتوكلت على واحد أحد، وذهبت إلى مركز تجاري ضخم فيه كل ما تشتهيه النفس، حتى "لبن العصفور" يمكنك العثور عليه فيه. بعد أن تعبت من التجول والنكش والبحش، كما تفعل زوجتي عندما تتسوق، وشبعتْ نفسي من رؤية واجهات المحلات، قررت أن أشرب فنجانا من القهوة "الاسبريسو"، لا للمتعة، وإنما كي أتذكر قهوة سوريا أيام حافظ الأسد، التي كانت عبارة عن بقايا خبز يابس وحمّص وأشياء أخرى، وأقارن بين القهوتين، وفي الوقت نفسه كي أواجه نفسي وأصارحها بما تريد شراءه من ثياب أو غير ذلك، بعيدا عن تأثير وضغط الناس.
وأنا أشرب قهوتي وحيدا، دون أن ينغص عليّ أحد المطربين الذين لا يغادرون الإذاعات، مثل علي الديك أو جورج وسوف، متعة ارتشاف وتذوق قهوة حقيقية، قلت لنفسي بوضوح: أنا رجل في الرابعة والستين من العمر، وأفضل ما يلبي حاجتي ويناسب كسلي، من الثياب هي "دشداشة" أو "كلابية" سهلة الخلع واللبس، ولكن ظروف كندا لا تساعد على لبسها والتباهي بها في الشوارع، وأخشى أن يراها الآخرون، وخاصة رجال المخابرات الكندية الأذكياء جدا، علامة من علامات "الجهاد الإسلامي" فأنال عقابي، وإلى أن يكتشفوا أنني "مسيحي"، وأنني لم أزر في حياتي كلها أفغانستان أو باكستان، "بيكون اللي ضرب ضرب واللي هرب هرب"، لذلك "كبست على الجرح ملح" وقررت إخفاء مشاعري الحقيقية، أو على الأقل، إخفاء إعجابي بالدشداشة، واستبدالها بسروال أوروبي مريح، واتخذت قرارا لا رجعة فيه بشراء "بنطلون" لا يحتاج إلى "قشاط" لأن "دكته" من المطاط، ولا "سحاب" أمامي له لانتفاء فائدته، ولسهولة "تنزيل البنطلون" ورفعه عند الحاجة، ولأن المطاط يتكيف لوحده مع خصري الرشيق.

وبما أن المصيبة قد وقعت، وأن عقاب زوجتي الذي لا يرحم قادم، قررت شراء حذاء جديد يليق بهيبتي وشيخوحتي وموقعي السياسي كمعارض عنيد لا يهاب الموت نظريا، لذلك كان علي أن أختار نوعا من الأحذية المريحة التي لا تحتاج إلى حل وربط كما هو واقع حال وزراء ابن الأسد، أو المعارضين الذين قبلوا أن يكونوا معارضين درجة ثانية في مكاتب المعارضة الخارجية، فهذا النوع من الأحذية لا يتطلب خلعه ولبسه رشاقة جسدية معينة، ولا الكثير من الانحناء والهبوط والصعود، ويناسب تماما مواصفاتي الجسدية، ولأنني صارحت نفسي بإمكاناتي، وكنت شفافا معها، قررت، أخيرا، مدّ يدي إلى جيبي، وهدر قروشي البيضاء في زمني الأسود هذا.

وهل هناك ما هو اكثر سوءا وسوادا من أيام السوريين حاليا؟!

(173)    هل أعجبتك المقالة (150)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي