حمص..النصر النسبي وفضيلة الاعتراف بالذنب

"انتصر" نظام بشار الأسد، وأحكم سيطرته -أو يكاد– على المنطقة الوسطى والساحلية ومعظم الجنوبية، وأخرج آخر الثوار من حمص، وإن بحالة"ميكافيللية" ليكون المجال له متاحاً، إن لسيناريو تغيير الديموغرافيا أو التقسيم..أو حتى النصر وإعادة السوريين إلى "حضن الوطن".
أم ترى ما جرى هو نصر مؤزّر لثوار تخلى عنهم الجميع، فصمدوا في حمص القديمة لنحو عامين، ولم يخرجوا إلا بعد تنفيذ كامل شروطهم، رغماً عن النظام ومن والاه، ليعودوا ويعاودوا على نحو يتناسب وتطورات الأرض، وإن عبر "الطيران كالفراشة واللسع كالنحلة" .
في المقلب الآخر، حتى قبل تنفيذ الهدنة التي ستبرم اليوم الأحد، زار وزير سياحة النظام السوري آثار تدمر أمس، ليرسل قبل انتهاء النص، رسالة إلى من يهمه الأمر..وانتخابات الرئاسية المقبلة –على ما يبدو- رغم أنف واشنطن وكل من قال للأسد الوريث ارحل، أو وزع الخطوط والآمال وسرق حلماً انتظره السوريون عقود طويلة.
الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة الذي قال: لم يتم التنسيق معي على اتفاق حمص، سارع رئيسه الجربا ووزير الدفاع في الحكومة المؤقتة للاجتماع مع "قادة الأرض" قبل زيارة سيادة الرئيس إلى واشنطن، لنسمع ويسمع الجميع، في طقوس قد لا تمت للعسكرة "واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان": سنأتي بسلاح نوعي لتغيير المعادلة على الأرض.
فكيف يمكن قراءة المشهد الأقسى ربما، بعد الذي يحضر، لصلب عاصمة الثورة..وربما اغتصابها من جديد.
بداية القول: قد تكون حمص كمدينة استثناءً، ليس لتوسطها سوريا أو لتوزع أحيائها بحسب الانتماء الطائفي وإعدادها للانفجار منذ نحو ثلاثين عاماً، بل لكونها المدينة التي تحررت في حين لم يستطع ثوار إدلب ولا حماة ولا حلب ولا درعا ولا اللاذقية ولا دير الزور، أن يفعلوا، فمراكزالمدن جميعها بقيت في يد النظام، عدا الرقة المشكوك بتسليمها، لتكون لاحقاً مركزاً لتنظيم الدولة "داعش".
فما يجري لحمص اليوم، وعلى هوله وجسامته، يمكن رؤيته من عين مثيلاتها من المدن السورية، التي بقيت كمراكز تحت سيطرة النظام، وتحرر الضواحي على اعتبار ثورة الكرامة، ثورة أرياف.
مايعني، عدم تبرير حالة الإحباط والشعور بالهزيمة، الذي لف الجميع، رغم ما لحمص من جغرافيا ووزن على الأرض وما تحمل من رمزية، في وجدان الثورة والثوار.
قصارى القول: ثمة واقع محلي، تجلى في جنوح الثوار نحو "الروحانيات" وكأن مشكلة السوريين الذين ثاروا، كانت مع الله وليست من أجل الكرامة والحرية والعدالة!
فما إن ينتهي صراع "أمراء هنا" حتى يندلع "صراع أقطاب" هناك، ولعل في دخول وتفشي مرض"داعش" أجهز -ربما- على عزيمة الجيش الحر، الذي ضعضع النظام وقت كان هدفه تحرير السوريين وواحد واحد واحد، وتسليحه لا يتعدى بارودة صيد أو بندقية آلية مغتنمة.
وتطعم هذا "الواقع العسكري" بحالات تشظٍّ سياسي وصل حدود التشكيك والتخوين، وغدت التمثيلات السياسية عبئاً على الثورة، ونقطة ضعف السوريين الحالمين.
ليضاف إلى ذلك التخاذل الإقليمي، الذي وجد في دفن الربيع العربي بدمشق، ضمانة لبقاء عروشه على قوائمها، فحرف وأحرف وحرق وأحرق، وإن بلبوس دعم الثورة حيناً وإعلاء كلمة الله بقية الأحايين.
لتأتي الضربة الموجعة، في تغيير مواقف الكبار، وإن تكتيكياً ولأجل، فمن طالب نظام الأسد بالرحيل منذ الأشهر الأولى، بات يرى في قتل الأطفال حرباً أهلية...ويكتفي بالاشمئزاز للسعي ثالثة لكرسي التوريث.
أمام هذا الواقع والذي نعتقد الهروب من الاعتراف به رذيلة، لم يك أمام ثوار حمص، الذين خرجوا مرفوعي الرأس وبأسلحتهم أيضاً، إلا تطبيق الاتفاق، لحماية من تبقى منهم وترك بعض سبل حياة، لمن أرادهم "الظلام" أمواتاً وهم على قيد الأمل والانتظار.
ما يعني، أن أي كلام لمن يتحصن وراء شاشة كمبيوتر أو أخذ من الاغتراب واللجوء حلاً، قد يندرج في خانة الخيانة، للإنسانية على الأقل، فلا يمكن لمن يأكل وينعم بالأمن أن يبيع أهل حمص، المواعظ والشعارات الثورية، لأنهم ببساطة، خبروا واختبروا الجميع.
خلاصة القول: الثورة السورية انطلقت من وجع السوريين ومنذ آذار 2011، ويخطئ كل الخطأ من يرى في تسليم حمص أو في نصر على حاجز هنا أو استعادة مدينة هناك، موتاً لها، لأن الثورة اشتعلت في دواخل السوريين، ولا يمكن أن تطفئها الجغرافيا ولا حتى محاولات تزوير التاريخ... وهاكم في الثورة الفرنسية قبل أن تصل للجمهورية الخامسة، مثالا من التاريخ لمن لم يجد قراءة التاريخ.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية