أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

( السوق الداخليّ ) لمحمّد شكري: رواية القاع في مفترق الطرق

بعيداً عن الرواية قريباً من السيرة الذاتية يبني محمد شكري سردياته التي تفتح عالم القاع على مصراعيه، وتعرض ما يسمى بـ ( السيرة الروائية )، وبدءاً من روايته الشهيرة ( الخبز الحافي 1983 ) يشتغل بهذا النوع من الحكاية، فلا يخرج عليه حتى باتت هذه الحكاية مألوفة، تدعو أحداثها المكرورة إلى الملل، وربما تبعث شخصياتها المتشابهة على الضجر.
لا شك في أن تجربة محمد شكري تزخر على المستوى الشخصي بأحداث غنية، وتجيش بوقائع مضطربة، ولكنها على المستوى الفني اجترّت، واستهلكت، فلا جديد البتة في ( السوق الداخلي ) يمكن أن تضيفه إلى إنجازاته الروائية الأخرى، ولا رواء في مفاصلها العجاف، فما قرأتـه هناك تقرأه هنا، وإن تغيرت الأحوال، واختلفت الأسماء.
لا أريد من البداية أن أقلل من شأن الرواية، أو أنال منها، لأنها في أقل تقـدير إنجاز مشروع، ينبغي أن يُحتفى به، ولأنها أيضاً تمثل جانباً مهماً من عالم محمد شكري الروائي الذي يبقى مثار دراسات وأسئلة متلاحقة، لعلني هنا أسعى إلى إثارة بعضها، فنصل معاً إلى أجوبة وربما إلـى أسئلة أخرى، و( السوق الداخلي ) تعج بمثل هذه الأسئلة التي تترى في الذهن، فمنها ما تجرؤ على طرحه، ومنها مالا تستطيع أن تقترب منه خجلاً وحياءً..

فإذا كانت ( السوق الداخلي ) روايةً من روايات القاع، وهي روايات قليلة في أدبنا العربي، نذكر منها على سبيل المثال: ( بيضة النعامة ) لرؤوف مسعد و( تلك الرائحة ) لصنع الله إبراهيم و( حرودة ) لرشيد بو جدرة، فلا شك في أن مثل هذه الرواية تثير زوبعةً من الأسئلة والدراسات، وربما تثير الغرائز أكثر، وذلك بما تعرضه من صور سوداء، لا نجدها إلا في شوارعنا الخلفية وقيعان مدننا العربية. والكاتب محمد شكري أول من تجرأ على عرض هذا الجانب المظلم من عالمنا، فقد نشأ في وسطه، وخبر علاقاته، وتلظى على صفيحه الساخن طفلاً وشاباً حتى ألفه، وأدمن آثامه وحرائقه.. ولو قرأت سيرته الذاتية لرأيت أن حياته لا تكاد تختلف عن حياة جان جينيه وتينسي وليامز وبول بوولز، وهم من معارف الكاتب ومن صعاليك طنجة المعروفين، فهي حياة مضطربة، تزخر بالتشرد والفقر، وتجيش بالقلق والبؤس والإدمان.. ولو أنعمت النظر في جغرافية هذه السيرة لوجدت أن طنجة هي جمهوريته الفاضلة التي يعيد صياغتها في كل رواية على هواه، فلا ترى من أمكنتها إلا المراقص والفنادق والمطاعم، ولا تجد من شخصياتها إلا المدمنين والمتسولين والعاهرات، فلا تحظى إلا بعلاقات غير سوية، وأما العالم النفسي لهؤلاء، فليس في حسبان الكاتب، وليس من شؤونه واهتماماته.
تقرأ رواية ( السوق الداخلي )، فلا تلقى أحداثاً ووقائع، وإنما تلقى علاقات شخصية عابرة للراوي بمجموعة من الشخصيات المتشابهة في الأفعال والملامح، ليس لديها أي نزوع درامي، وليس لها أثر في بنية النص السردي، فالشخصية الروائية الحقيقية تتنامى على وفق حركة الأحداث، وتترك تأثيراً في البناء الروائي.. ولكنها في ( السوق الداخلي ) لا وظيفة فنية لها، ولا دور لهــا إلا في حياة المؤلف نفسه، وهو دور عابر، ينقضي بانقضاء وطره منها: " سألني: قل لي: هـل مازلت تفكر في فالري ؟ اتجهت نحو النافذة، وقلت له مديراً له ظهري: أنا ؟ كلا، لم أكن متعلقاً بها أكثر من اللازم. إن علاقتي بها كانت عابرة ".
وعلى هذا المنوال تتوالى العلاقات، وتتلاحق الأدوار، فلا يكلف الراوي نفسه عناء تطوير شخصياته وتحويل العياني منها إلى شخصية حكائية، لها علاقاتها الاجتماعية وأفعالها السيكولوجية، ولها دورها الذي يتنامى في النص مثلما يتنامى في الحياة، وبالتالي لا ينظر إلى الحدث إلا نظرة خاطفة، تؤدي إلى التقليل من أهمية الشخصية ودورها الاجتماعي والفني معاً: " لا أكاد أتأمل فيما حدث لي حتى يفاجئني حدث جديد، ينفي ما اختزنته من تجارب ".
وإذا ما بحثنا في ( السوق الداخلي ) عن ملامح هذه الشخصيات وأساريرها، فسنجد أنهـا شخصيات متناقضة مأزومة، لا هم لها إلا الجنس والإدمان والثرثرة، ولا شأن لها إلا التسكع والتفسف.. فالمرأة منها غلامية الشكل تلهث وراء شهواتها، والرجل أنثوي الصورة والصـوت، تجره غرائزه وأهواؤه..
ولعل أهم شخصية في الرواية هي شخصية الراوي علي التمسماني الذي يستتر المؤلــف خلفه، وهي أيضاً البطل الذي يعرض في كل صفحة من صفحات الرواية قواه، ويمارس بضـراوة الجنس، ويدمن بلا هوادة مختلف الأشربة، فلا يرعوي، ولا يرتدع.. والرواية تظهر بوضــوح أن هذا البطل وجودي غير منتم إلى زمان ومكان محددين، يقرأ ( معنى القلق ) لكير كجــارد و( الزمان الوجودي ) للدكتور عبد الرحمن بدوي و( شيطان في الفردوس ) لهنري ميلر، ويفلسف الوجود على طريقته الخاصة، ويعيش حياته بأسلوبه الخاص: " إن حياتي هنا على هـذه الوتيرة تجعلني أعيش في شبه ماض محض. الحاضر ينحسر كل يوم، المستقبل يكاد ألا يكون لـه أي معنى، كأنه مجرد أحلام يقظة. كنت أعتقد أن الملل يصدر عن الغباء وحـده. أن هذه الوحدة ستكسبني عزاءً تافهاً. لو أني كنت عبقرياً، لكان لهذه الوحدة تبرير ومعنى، لكـن مع ذلك فأنا أحبها مع قليل من الكراهية للحياة، يزداد كل يوم ضجرها. فن العيش أم نضاله ؟ لا أدري بعد. الغباء هو أن يكون لكل سؤال جواب ".
ولما كان الراوي هو البطل والمؤلف معاً استحال خطابه السردي خطاباً شخصياً، لا يفتأ يكرر في أضعاف الرواية ما يحب وما يكره: " لا أحب مثل هذا الجسم.. أكره هذا النوع مـن الشيخوخة.. أكره رائحة جسدي في هذا الزحام.. "، ويخرج على السرد إلى طرائف ( انظر: 19 و52 ) وإلى تأملات وأفكار خاصة ( انظر: 36 و43 و81 )، تعترض مسار السرد، وتزلزل البناء الروائي، فالراوي ينظر من خلال زاويته الخاصة لا من خلال رؤيتـه الموضوعية للأحداث والوقائع، ويشارك في سيرورتها شاهداً وبطلاً، ويتسلط على شخصياتـه، ويدرك رغباتهم الخفية وما يدور بخلدهم، فينحرف السرد من النمط الموضوعي إلى نمط ذاتي، ففي الحالة الأولى يكون الراوي محايداً، لا يتدخل في تفسير الأحداث، وإنما يصفها وصفاً محايداً، ويستنبطها في أذهان الشخصيات، وفي الحالة الثانية يكون الراوي متسلطاً، لا يقـدم الأحداث إلا من زاوية نظره الذي يفرضه على القارئ، ويدعوه إلى الاعتقاد به، ومن هذا النمط من الرواة كان محمد شكري أو علي التمسماني الذي لم يكن مجرد كاتب أو شاهد متتبــع لمسار الحكي فحسب، وإنما كان مشاركاً، حتى غدا الشخصية الرئيسة التي تتدخل في سيرورة الأحداث ببعض التعاليق أو التأملات أو الطرائف..
فالرواية لدى محمد شكري إستراتيجية شخصية، لا تعنى بأركان الرواية وعناصرها، ولا تلتفت إلى بنائها السردي أو إلى وقعها النقدي، لأنها في المحصلة سيرة ذاتية، لا تخضع لشـروط الرواية، وإنما تخضع لإملاءات صاحبها ونوازعه الفنية.
والرواية أيضاً لدى شكري فضاء رحب من الأمكنة، حتى كأنها رواية مكان لا رواية حدث، وهو يلح على المكان، بل يهجس بالأمكنة، وفي ( السوق الداخلي ) يسيطر المكان على الحكي في معظم الأحيان، بل يؤسس الحكي نفسه، ويهيمن عليه، فتتحول شوارع طنجة وفنادقها ومطاعمها ومقاهيها إلى أداة للتعبير والتصوير معاً: " الشارع الرئيسي يبدو اليوم أكثر اتساعاً. شذبوا الأشجار، رؤوسها مقصوصة. لمست رأسي: سالفاي يتدليان، أ ينبغي أنا أيضاً أن أقص شعري ؟ ساعة المتجر ما زالت عاطلة، إنها في عطلة صدئة. المدينة في عطلـة، أنا في عطلة، لكن عطلتي قد تطول أكثر من الساعة والوافدين على المدينة ".
ولو تتبعنا تلك الأمكنة في ( السوق الداخلي ) لوجدنا أن محمد شكري لا يختلف إلا إلـى أمكنة القاع، فيصف أحوال أهلها وعلاقاتهم، وذلك في وصف دقيق لمعالم هذا المكان وعناصـره وأجزائه، يجعل الأحداث التي يحكيها الروائي تحمل مظهر الحقيقة، ويكشف عن تعلق حميمي بهذه الأمكنة الرحبة التي تضيق أحيانا على نفسه المضطربة ووحدته الموحشة، فلا يزال يكرر: " لا مكان لي في هذه المدينة.. لم أجد لي بعد أي مكان.. لا مكان لي أضعها فيه.. ".
هذا المكان في الفضاء الروائي لا يمكن تصوره دون سيرورة زمنية حكائية، تؤقت الأحداث، وتحرك الشخصيات.. ولكن الزمن في ( السوق الداخلي ) متوقف، ليس له أي أ ثر على حركـة الأحداث والشخصيات، والكاتب محمد شكري يلح على إيقاف الزمن، " فالساعة مازالت تشير إلى الثالثة وخمس دقائق. غداً لم يصلحوها ستشير إلى نفس الوقت. أنا الآن مثل هذه الساعة، لم أجد لي بعد أي مكان، كما لو أن زمني فات، أو لم يأت بعد ".
إن هذا الإحساس بالزمن المعطوب يؤرق محمد شكري، فيهجس بالحديث عنه، ويقول: " حتى الآن فكرة الزمن غامضة في ذهني. إحساسي به أقوى من فهمي له.

 أنا الذي أخلقه أم هو ؟ أستهلكه أم يستهلكني أم كلانا يخلق الآخر ويستهلكه ؟ أذهب، فيبقى، أم يذهب، فأبقى ؟ كيف يمكن إبطاؤه أو إسراعه ؟ أهو ممكن إيقافه بشكل ما ؟ أدركه مثل الأشياء والأشخاص. إذا أنا لم أفكر فيها لا توجد، إذا أنا لم أفكر فيهم لا يوجدون. الثلج يطفئ النار، والنار تذيب الثلج، لكن ما أنا بثلج ولا أنا بنار. هكذا يظل الزمن هو الأقوى".
فالزمان لدى محمد شكري مفتوح رحب لا نهائي، لا تؤقته أحداث، ولا تحركه شخصيات، لأنه يخضع لسيطرة الراوي أكثر مما يخضع للتسلسل الزمني نفسه: " زمني في اللازمان، بلا سماء ولا أرض، أحسني بينهما دون أن أتماس مع إحداهما. زمني في زمن اللا زمان "، وهو زمان وجودي، لا يهدأ، ولا يسير على وتيرة واحدة.
وهكذا يبدو المكان واضحاً، والزمان غائماً في عالم ( السوق الداخلي )، وهو عالم يعـج بالتسول والإدمان، ويبعث على التقزز والاستغراب، وهو أيضاً عالم محمد شكري في مختلف رواياته التي أخلصت لعالم القاع، فلم تخرج منه، والتي تأخرت كثيراً عن ركب الرواية الجديدة وما حققته من إنجازات، لأنها ظلت روايات سرد مباشر، لا جديد البتة في بنائها الفني، ولا جديد أيضاً في خطابها الفكري.

  • ( السوق الداخلي ) لمحمد شكري، الطبعة الأولى، منشورات الجمل في

Germany-Koln1997.

 

 

محمد محيى الدين مينو [email protected]
(163)    هل أعجبتك المقالة (140)

غ

2008-05-30

كلّما قرأت محمد شكري قلت في نفسي: " أما آن لهذا الكاتب من يكشف زيفه "!.


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي