أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

حديث الثورة "فتى كردي هارب"

ضاقت سبلُ الحياة بالفتى الكردي «سليمان»- الذي يُعرف في منطقته باسم «سلو»- فقرر مغادرة مسقط رأسه «قامشلو» متوجهاً إلى تركيا.. مؤملاَ إيجاد شغل يعيش منه ويرسل بعض النقود لأبويه العجوزين. هكذا أخبرني حينما التقيتُه في مدينة «أنطاكية» التركية أواخر الشهر الماضي.

قال لي: الحياة هناك، في القامشلي، يا أستاذ، ما عادت تُطاق. فمرة يكون «النظام» مسيطراً على الأرض، ومرة تقع المدينةُ وما حولها تحت سيطرة دولة العراق والشام «داعش»، ومرة تحت سيطرة «صالح مسلم» وحزب العمال الكردستاني بي يي دي.. والمواطن العادي، وخاصة الشاب الذي بعمري، لا يعرف ماذا يجب عليه فِعْلُهُ، أو تَجَنُّبُهُ، ليُرضي هذه الأقوام الغريبة المتعاقبة!.. ثم سألني بحرقة:

فيها شي إذا الواحد ما بده يشتغل بالسياسة مع هيك ناس؟! يا أخي هاتوا لي ثورة حتى أشتغل فيها.

وأسهب «سلو» في عرض ملابسات سفره قائلاً: كان أمامي عدة خيارات للوصول إلى تركيا، وكلها صعبة، بل مرعبة. منها أن أدخل بشكل غير قانوني إلى كردستان العراق، وإذا لم أعْلَق هناك في أيدي الشرطة الكردستانية وتعيدني من حيث أتيت، وقتها أستطيع أن أسافر، جواً، من أربيل إلى إسطنبول، ثم أتجه إلى حيث أريد.. أو أن أدخل براً من معبر «نصيبين» نحو مدينة «ماردين» ثم إلى «غازي عنتاب» وهذا أخطر الطرقات على الإطلاق، فأنت لا تعرف من يقتلك خلال العبور أو «يجولك»..

لذلك كله وجدتُ الطريق الأكثر أماناً هو الركوب بالطائرة من «مطار القامشلي»- الذي ما تزال قوات النظام تسيطر عليه- إلى مطار «اللاذقية» ومن هناك اتجهتُ إلى الحدود اللبنانية، عبرتُها بصعوبة بالغة، وبعد أن تعرضتُ للكثير من كقارات شبيحة النظام.. ثم سافرتُ جواً إلى إسطنبول ثم إلى مطار أضنة، ثم براً إلى «مرسين» البحرية التابعة لولاية «أضنة»..

لقد استغرقت هذه الرحلةُ أربعةَ أيام بلياليها قطعتُ خلالها آلاف الكيلومترات بينما العبور براً- لو كان ممكناً- لا يستغرق أكثر من 12 ساعة.

لم أكن أنا القادمَ الوحيد، يا عمي، ولا المغامر الوحيد، ولا العاطل عن العمل الوحيد في هذه البلاد.. فحينما وصلتُ إلى «مرسين» وجدتُ أمامي المئات من الشبان السوريين الرائعين، الذين قادتهم الظروف إلى هنا، ينامون حيثما كان، وكيفما اتفق، ويأكلون أي شيء، وتراهم يضحكون ويمرحون ويسخرون من أنفسهم ولا سيما حينما يُدركون أنهم قد تنازلوا عن معظم حقوقهم الإنسانية، وفي مقدمتها الحق في «التعليم» و«الحب» و«الزواج»!

الفتاة النحيلة التي كانت واقفة إلى جوار «سلو» تدخن سيجارة من النوع الرديء، تقدمت خطوة إلى الأمام راسمة على وجهها ابتسامة متعبة وقالت لي: أستاذ خَلِّ «سلو» يحكي لك حكاية «إش يوك».

ههنا اندفع سلو قائلاً: «إش يوك» عبارة يحفظها الشبان السوريون عن ظهر قلب رغم أن معظمهم لا يجيدون اللغة التركية، وتعني «لا يوجد شغل»!.. فأصحاب المعامل والمشاغل و«الفابريقا» والمطاعم والأسواق و«الماركيتات» و«المولات» الكبرى، ومن كثرة ما يسألهم الشبان السوريون عن شغل أصبحوا يقولون لكل من يقترب منهم «إش يوك»!.. وقد أصبحنا نتندر بالعبارة في الأماكن التي نأوي إليها، ونقوم بما يشبه التمثيليات فيقول لي محمد علي: ميرابا سلو.. (يعني: مرحبا سلو)، فأرد عليه ضاحكاً: إش يوك!.. وأتابع بالعربي: حل عن سمانا يا هووو..!

كنتُ قد دعوتُ «سلو» والبنت التي كانت معه- وقد عرفتُ أن اسمها «نارين»- إلى فنجان قهوة مع أركيلة في مقهى «إيشيل تابّا» القابع فوق نهر العاصي.. تابع سلو رواية مأساته، فقال:

بعد ثلاثة أسابيع بالضبط، يئستُ من الحصول على عمل، وشبعتُ ذلاً وقهراً.. وفي لحظة تجلٍ عظيمة قررتُ العودة إلى الوطن.. (وضحك وأردف).. أقول «الوطن» متناسياً أن سورية حالياً لم تعد وطننا!!.. لقد تبين لي أنني أنا (اللي مو معبي عين أحد)، أصبحتُ مطلوباً للجهات الثلاث (نظام- داعش- بي يي دي) دون أن يكون لي علم بذلك.. ولكن هذه الرحلة كانت نافعة على كل حال.

سألته: كيف؟

قالت نارين وهي تنفث غمامة كبيرة من دخان الأركيلة: خسر كل شيء، ولكنه، خلال تلك المحاولة تعرف علي.. يعني ميزان القوى عنده أصبح رابحاً.

قال لها ممازحاً: نارين أنا ما تعرفت عليكي، قولي إني ابتليت فيكي!

سألتُه: وماذا فعلت.. بعد كل هذا الذي صار؟

ابتسم وقال: المهم، كانت نارين قادمة في سوريا، وقالت لي إن لديها أقارب في أنطاكية يمكنهم أن يدبروا عملاً لي أو لها أو لكلينا، ويمكن يدبروا لنا بيتاً ننام فيه.. فجئنا إلى هنا.

بصراحة وجودي هنا أفضل من وجودي في مرسين.. أصبحتُ أعثر على عمل ما، يدوم ثلاثة أو أربعة أيام، ثم أغادره.. وأنام في غرفة للشباب القادمين من قامشلو.. ونارين تنام عند أقاربها..
الأهم من هذا وذاك.. أنني متفائل. 

قالت نارين: وبدنا نتجوز. وهاي لحالا قصة غريبة. يمكن نحكيها لك في وقت لاحق.

من كتاب "زمان الوصل"
(132)    هل أعجبتك المقالة (136)

resül mamend

2014-03-01

طبعا - كونك المثقف العربي المنصف - لم يخطر لك ان تسأل سلو افندي; مئات الآلاف من اهالي حمص وحماة وحلب وديرالزور يلجأون الى عفرين وكوبانى والجزيرة فلماذا تركت لهم دارك وهممت بالهروب, او لماذا لم تلتحق بصفوف الYPG وتحصل راتب معقول وتتشرف بالدفاع عن ارضك؟.


ahmad razi

2014-03-01

السيد بدلة أنا من المعجبين بك منذ كنت تكتب في الصحف السورية و أؤيد إتجاهك السياسي ولكن أحزن عندما أرى إسمك مقترناً مع أسماء كتاب آخرين يروجون للفكر الطائفي المقيت في بعض المواقع..


Abumajed

2014-03-02

الحل الوحيد لسلو ونارين وغيرهم من السوريين في تركيا وأوروبا وغيرهما هو التسويق الشبكي network marketing . فهناك شركات كثيرة وذات سمعة عالمية تعمل في تركيا. خلال حرب البوسنة كان هناك أناس من جميع الفرق المتحاربة يعملون مع بعض في هذا النوع من البزنس..


مجد الأمويين

2014-03-03

الله يكون بعون هالسوريين، والله يمكن صار في سورية عندنا قصص لمئات السنين القادمة، تحكيها الأجيال المتلاحقة جيلا بعد جيل.


التعليقات (4)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي