رغم أن الاربعاء هو يوم حمصي بامتياز، إلا أن بعض سكان مونتريال الكندية، ورغم بعد المسافة والثقافة، أصروا على مشاركة أهل حمص يومهم، فخصصوه لرمي كل الأاشياء التي ليسوا بحاجة لها، والتي يمكن إعادة "تدويرها"؛ أي إعادة الاستفادة من المواد التي صنعت منها، كالزجاج والورق والبلاستيك وغيرها.
ومع تراجع البرد وذوبان الثلوج في المنطقة التي أعيش فيها الأسبوع الماضي، بدأت عضلات جسدي بالتمدد بعد أن كان الجليد قد قلصها، وعاد لي حنيني الحمصي إلى اكتشاف مخلفات البشر، وخاصة المرمية على أرصفة المدينة التي كان يغطيها الثلج، وقررت خوض مغامرة التعرف على الناس من خلال زبالتهم.
ولأعطي انطباعا سليما عن منهجي في النقد بدأت بنفسي، فأنا وجارى السيرلانكي أكسل من أن نقوم بفرز الزبالة المنزلية إلى نوعين، ورغم أن بلدية المدينة قد أعطت كل بيت صندوقا بلاستيكيا أنيقا كي يخصصه للمواد التي يمكن اعادة تدويرها، إلا أننا وجدنا في هذا الأمر مضيعة للوقت وقلة فائدة، وبدلا من رمي زبالتنا على ثلاثة أيام في الأسبوع اكتفينا بيومين، يعني أننا ألغينا يوم رمي الزبالة القابلة للتدوير، ووضعنا كل مخلفاتنا المنزلية في أكياس سوداء، الصالح منها والطالح، مرتكبين بذلك مخالفات قانونية وثقافية وبيئية.. قانونية، لأن البلدية طلبت من السكان فرز زبالاتهم إلى ما هو ممكن الاستفادة منه وإلى ما لا يمكن، ومن لا يقوم بذلك يُعتبر من المخالفين للقانون، وتترتب عليه غرامات مالية محددة.
أما المخالفة الثقافية فهي الخروج عن العادات الثقافية للسكان، الذين يرون في تنفيذ أوامر البلدية، تحقيقا لرغباتهم، التي صاغتها البلدية على شكل قوانين تخدم مصلحة السكان جميعا، والمخالفة الاخطر هي المخالفة البيئية، ففي رمي الزبالة التي يمكن إعادة تدويرها مع الاخرى زيادة في استهلاك موارد الطبيعة، ورفع لنسبة تلوث البيئة، قد يؤدي إلى توسع ثقب الأوزون وتهديد حياة البشر مستقبلا.
وخلاصة الأمر، أن أي قارئ أو متابع للزبالة يمكنه أن يقول عني وعن جاري، أننا لسنا متأقلمين مع الحياة الكندية، وأننا من المهاجرين القادمين حديثا إلى المدينة، وأن مستوانا التعليمي ضعيف، علمنا أننا في مونتريال منذ ربع قرن، وأن كلا منا يحمل شهادة جامعية، ولكننا في الواقع غير متأقلمين مع الحياة الكندية لأسباب ثقافية.
تابعت مسيري على الرصيف، بعد أن "هريت نعمتكم" من نقدي لذاتي ولجاري، وقفت أمام صندوق بلاستيكي آخر مليء بالزجاجات الفارغة، ولا شيء آخر. تعرفت على بعض زجاجات الخمر التي مرت على موائد شبابي، وعرفت منها ما هو مخصص للويسكي وما هو مخصص للنبيذ وأنواع زجاجات البيرة المحلي منها والمستورد، بحثت بيدي في الصندوق علها تصطدم بزجاجة عرق فارغة، فلم أعثر على مبتغاي، وقررت أن صاحب هذا البيت كافر زنديق لم يترك نوعا من أنواع الخمور إلا وتعاطاه، وأن وضعه المادي المريح يتيح له شراء و"كركعة" الخمور الغالية الثمن، والتي قد يصل سعر الزجاجة الواحدة الى أكثر من مئة دولار، وعدم وجود زجاجة عرق يدل بما لا يدع مجالا للشك أن أصله ليس شرق أوسطيا، وانه لا يعرف معنى تذوق الكحول "والسلطنة".
قبل نهاية الشارع لفت انتباهي صندوق بلاستيكي آخر عليه اسم بلدية مونتريال فاقتربت متلصصا على محتوياته، فوجدت، يا للهول، كمية كبيرة من الجرائد اليومية، وعلب كرتون فارغة لنوع معين من الدخان، وتذكرت فورا أيام العمل بالسياسة في سوريا، واقتران عادات القراءة مع التدخين، يضاف إليهما "الصفن" السياسي والأحلام الخرافية في التحرر، مما أدى في النهاية إلى استمرار الأسد في السلطة إلى وقتنا الحالي، وقررت أن صاحب هذا البيت مصاب بمرض متابعة أخبار المدينة، وأنه ينفق ثلث دخله اليومي على الدخان الذي قد يكون سببا مباشرا بقتله في أحد الأيام.
كدت أنصرف عن متابعة مهمتي، ولكن وجود كمية كبيرة من الزجاجات البلاستكية الشفافة والفارغة أمام أحد البيوت استوقفني، أخذت عبوة بين يدي لأقرأ ما هو مكتوب عليها، كي أفهم من يستخدمها، ولماذا، فوجدت أن من يسكن هذا البيت رجل كبير في السن، عليه أن يشرب هذا السائل الذي يشبه الماء، وأنه مريض بمرض لا اعرف اسمه، وأنه ممنوع من شرب الماء العادي، رغم أن مياه مونتريال معروفة ومشهورة بطيبة طعمها ونظافتها وخلوها من البكتريات والجراثيم، وأن البلدية تراقبها مراقبة دقيقة حرصا على صحة السكان، وتقدم تقارير علنية عن مكوناتها في الأخبار ووسائل الأعام المتنوعة.
قبل أن أنعطف يمينا، قررت التوقف عن متابعة قراءة زبالة الناس، على مبدأ "من راقب الناس مات هما"، وأنا لست بصدد الموت .الآن
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية