تحول النظام السوري تدريجيا إلى ميليشيا هائلة القوة تخوض قتالا يائسا ضد الشعب السوري مبددا إمكانياته المادية والبشرية وثرواته، والأخطر من ذلك نسيجه الاجتماعي، عبر دفعه إلى اقتتال طائفي وأهلي بغيض، تحلل النظام أوالميليشيا من كل واجبات الحرب والسلم، فالثورة السلمية جوبهت برصاص حي حصد أرواح خيرة شباب سوريا وزينتها من غياث مطر إلى تامر الشرعي وحمزة الخطيب، لا قوانين للحرب انطبقت عليه أيضا فتم استهداف المشافي والبيوت السكنية والمساجد والكنائس وضجت مقرات الفروع الأمنية بقصص الموت تحت التعذيب وبكل أنواع الممارسات اللا أخلاقية واللاإنسانية، مقابل ذلك نجد الشعب السوري صامدا على مدى ثلاث سنوات ليس ليحافظ فقط على مقاومته وصموده وإنما والأهم على تماسكه في ظل سياسية ترمي إلى كسره وتفتيته.
إن سوريا اليوم في منتصف المرحلة الانتقالية، فأقسام كبيرة من أراضيها محررة لا يستطيع نظام الأسد الاقتراب منها، فالأسد تحول من رئيس لسوريا إلى محافظ لدمشق وبعض ضواحيها، لا يستطيع الخروج إلى أبعد من قصره قبل أن تسبقه مليشياته وعصابته، وخسارة الأسد لمعظم المعابر الحدودية مع تركيا والعراق يعني بالمعنى السياسي فقدان نظام الأسد لقدرته على بسط سيادته على المناطق الجغرافية ذات الأهمية الاستراتيجية، بكل تأكيد يستطيع الأسد أن يؤذيها، أن يقصفها، أن يحرقها لكنه لا يستطيع بكل بساطة أن يستعيدها، لكن هذه المناطق المحررة بنفس الوقت في معظمها لا صلة جغرافية بينها وسهولة استهدافها جوا يمنعها من إعلان ذاتها مناطق آمنة، وإدراتها في ظل غياب سطلة مركزية تديرها تزداد صعوبة وتعقيدا، وكلما طال بقاء الأسد في قصره كلما كانت المرحلة الانتقالية أكثر ألما.
وهنا تأتي أهمية مشاركة السوريين جميعا في التوافق على إدارة المرحلة الانتقالية، منعا من دخول الفوضى ولضمان الانتقال بشكل آمن، فالمناطق المحررة تتطلب سلطة مركزية تديرها سياسيا، اقتصاديا، إغاثيا، قضائيا، اجتماعيا، قانونيا، ولذلك تشكلت الحكومة المؤقتة كي تكون المرجعية التي يحق لها تأسيس هذه السلطة في المناطق المحررة من أجل ضبط العملية الانتقالية.
ومن هنا نشأت ما يسمى المجالس المحلية في المدن والبلدات المحررة بهدف ترسيخ فكرة الإدارة المدنية لهذه المناطق، انطلقت هذه المجالس بمبادرات محلية من قبل سكان المناطق والبلدات وشكلت أملا حقيقيا في ملء الفراغ الأمني والسياسي الذي خلفه رحيل نظام الأسد، لكن هذه المجالس تعرضت لتحديات كبيرة ومختلفة من منطقة إلى أخرى.
- أولاها بكل تأكيد ضعف التنظيم الضروري لهذه المجالس بحيث افترق للشرعية الضرورية بسبب انعدام الانتخابات في معظم المناطق التي نشأت فيها المجالس المحلية، وإن حدثت الانتخابات في مناطق أخرى مثل حلب التي كانت الأفضل بكل تأكيد لجهة التنظيم والسيطرة المدنية، لكن مشكلة ضعف التنظيم ونقص الشرعية بقيت السمة الغالبة لهذه المجالس.
- ثانيها ضعف التمويل الدائم والمستمر مما أثر بشكل كبير على أداء هذه المجالس وفي مرحلة لاحقة أدى إلى انهيار بعضها بشكل كامل، عندما فقدت هذه المجالس القدرة على تقديم الخدمات الضرورية مما أنقص الشرعية العملية التي كانت تعمل من خلالها، فالناس في المناطق قبلوا بالمجلس كحالة مؤقتة من أجل ضمان استمرار الخدمات العمومية، ولكن عندما فشلت هذه المجالس في تقديمها فقدت قدرتها على الاستمرار كمركز للسلطة المدنية في المنطقة.
- ثالث هذه التحديات هو فقدان الصلة المباشرة والعملية بين المجالس المختلفة وبين المعارضة الخارجية لأسباب مختلفة أهمها الأمني حيث إن المناطق المحررة كما قلنا لا صلة جغرافية بينها وهي أشبه بالنمر المرقط كما وصفها وزير الخارجية الفرنسي في أحد المرات، وبالتالي أصبح من الصعوبة بمكان تأسيس آلية لتبادل الخبرات والخدمات والمعلومات بين المجالس المختلفة في المناطق المختلفة ولذلك بقيت هذه المجالس تعتمد على مواردها الذاتية المحدودة للغاية والتي تضاءلت رويدا رويدا مع الوقت حتى انهارت تماماً في الكثير من الأحيان.
- رابعها وهو في الحقيقة يعتبر التحدي الرئيسي والجوهري، هو أن الأسد اتخذ قرارا بجعل الحياة البشرية ف المناطق المحررة غير ممكنة عبر القصف المستمر والبراميل المتفجرة التي تهطل كالمطر، كما وجدنا في حلب والغوطة الشرقية وداريا وإدلب وغيرها مما جعل الحياة مستحيلة تماماً في ظل الحمم الهاطلة من السماء يوميا، وهو ما جعل مسألة إدارة المناطق المحررة عبر المجالس المحلية مسألة مستحيلة ودفع الكثير من أبناء المناطق والبلدات إلى مغادرتها وهجرتها، وكان على رأس هذه الهجرة الكفاءات البشرية التي فضلت اللجوء أو البحث عن فرص أخرى بدل تحمل الخطر الدائم والموت المستمر يوميا عبر القصف الجوي.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية