ليتك تحكم أوكرانيا يا سيادة الرئيس

آخر ما حرر أن مسؤولي الحدود في أوكرانيا منعوا الرئيس من الهرب، بعد تصويت البرلمان على عزله وتحديد 25 مايو المقبل موعداً لانتخابات الرئاسة...وأن قصور الأخ يانكوفيتش مفتوحة للصحافيين، وأن الجيش أعلن محافظته على التزاماته الدستورية ولن يتدخل في صراع سياسي..فأي قدر يعيشه العرب في دول زعمائهم العميقة، التي حولت ربيع المطالب ببعض بعض حقوق المواطنة، إلى خريف تساقطت عبره الشباب والمقدّرات...وحتى الأحلام، فهل الحكاية ضريبة صمت الآباء واستكانتهم..أم من كتبت عليه خطىً مشاها.
بداية القول: غصباً عنا، غصنا في قضية حرية جميلات أوكرانيا لشحمة أذنينا، قد لأن سنوات الدم الثلاث، خلقت لدى السوري تعاطفاً مع كل شعب يخرج على ديكتاتور، وقد لأن روسيا بوتين التي أمدت طغيان الأسد بكل أسباب وأساليب قتلنا، تؤيد الرئيس فيكتور يانكوفيتش، كما وقفت، ولم تزل إلى جانب صدام والقذافي والسيسي وكل حكم فردي مستبد حول العالم.
بيد أن الصفعة، وإن المتوقعة، التي أعادت السوري لاعتبار دمه رخيصاً، إن لم نقل مستباحاً، أن العالم المتحضر، تهافت على كييف، ليوقف "نزيف الدم" بعد أن سقط نحو ستين قتيلاً، في حين أن العالم ذاته، هو من أجل جلسة مجلس الأمن مراراً، قبل أن يسمح للسوريين المحاصرين بالأكل واقتراف جرم البقاء.
بل وأكثر، إذ لم يعب "الكبار"على شعب أوكرانيا استمراره بالاعتصام والتظاهر، رغم خضوع الرئيس لمطالب المعارضة واستقالة رئيس البرلمان فلاديمير ريباك القريب من يانكوفيتش وانسحاب أعضاء من حزب المناطق الحاكم احتجاجاً على قتل المتظاهرين، بل لعبت دول أوروبا الغربية، التي سارع وزراء خارجيتها إلى كييف فور سقوط الدم، دوراً -وإن بالخفاء- في استعادة أوكرانيا المسروقة من روسيا الاتحادية، إلى حضن الاتحاد الأوروبي.
أما "ميكافيللي العصر الحديث" باراك أوباما، فهو من بادر بالاتصال بفلاديمير بوتين، ليحضه على ضرورة إخراج أوكرانيا من أزمتها، وتطبيق الاتفاق فوراً، لكنه بالواقع، أوصل نيران الربيع إلى حصون موسكو..لترمى كل ما في يد بوتين من أوراق على طاولة التفاوض، والتي قد لا تكون سوريا والنفط والغاز وصفقات السلاح مع مصر والعراق، جميعها.
قصارى القول: يخطر لأي سوري أن يسأل وإن بحسرة، لماذا تقوم الدنيا لأجل أوكرانيا ولا تقعد، رغم انصياع رئيسها لمطالب المحتجين، في حين يساهم العالم، وعلى رأسهم الأشقاء، باستدامة تدفق الدم السوري، لتدفع ثورته أثمان بقاء من بقيّ وذهاب من خلّع وتكون عبرة وتأريخاً لم يسجل له تاريخ الثورات-بمافيه الثورة الفرنسية والاسبانية- مثيلاً.
أعتقد وقبل النظر في الأسباب والعوامل الموضوعية، التطرق إلى الأسباب السورية ذاتها، فإن لم نقلب في جمر الماضي ونتطرق إلى الصمت على الأسد الوارث، ابتداء من 23 شباط 1966، وحرب 5 حزيران 67، ومن ثم التصحيح المجيد فقمع حراك الدمشقيين ومن ثم مجزرة حماة وأخيراً توريث الحكم لقاصر، فحري بنا المقارنة، على الأقل مع ما حصل في أوكرانيا قبل أيام.
في سوريا، هرع المثقفون إلى الخارج وسارعوا لمد اليد والارتباط- الكلام بعموميته وليس بإطلاقه- فتعاملوا وفق "عدو العدو صديق وصديق العدو عدو" وكأنهم يريدونها ثورة على العالم بأسره، فخسروا موسكو وطهران وبيجين، ولم يكسبوا"العربان" الذين أرادوا القصاص من التاريخ عبر الدم السوري واعتبار ثورة كرامة السوريين عبرة كي لا تصل نيران الربيع لقوائم عروشهم.
واستميلوا في الآن نفسه إلى العواصم الأوروبية وأخذتهم الوعود الأمريكية، وغرقوا في التبعية والتشرذم، ظانين-كما روّج لهم من لا يريدون بهم خيراً- أن عدم وجود مرجعية وزعامة للمعارضة، إنما ستشتت النظام وتزيد من دورانه في بحر الضياع.
في حين أن ثورة أوكرانيا، ورغم دخولها الشهر الثالث، واعتقال زعيمتها، لم يفعلوا أي ما يحرف ثورتهم عن مسارها، رغم كل الإغراء الأمريكي والوعود الأوروبية.
في المقابل، وكي لا نحمل الوزر على المعارضة، التي لم يخطر لها، بل وأزعم لأي مراقب، أن يصل إجرام النظام لبيع سوريا بمن فيها وعليها للخارج، ولا يتنازل لشعبه، حتى على مستوى انتخاب مجلس بلدي، بل سارع وعلى مرأى العالم، للقتل منذ جوابرة درعا في اليوم الأول،إلى أن وصل به الأمر للكيماوي والمجازر وابتداع طرائق البراميل للقتل الجماعي، ليعطي دروسا لنيرون وفرانكو في قبورهم.
أما ما أعتقده الأهم في المقارنة، أن حكم الأسد في سوريا، الأب ومن ثم الوريث الابن، بنى الدولة على مقاسات وارتباطات وارتهانات، فالمؤسسسة العسكرية التي حافظت على التزاماتها الدستورية في أوكرانيا، كما في تونس، وأحجمت عن الدخول في صراع سياسي، وجدناها سيقت في سوريا من انتماءاتها الضيقة ونفعيتها البخسة، لتنتخي للدفاع عن القائد الرمز وتتوغل في القتل، بعد أن أعلنتها صراحة "الأسد أو لا أحد".
وما قيل عن المؤسسة العسكرية والأمنية، التي تعد بيضة قبان في صراع الأسد لأجل الكرسي في مقابل صراع الشعب لأجل حريته، يمكن قياسه على المؤسسات والسلطات الأخرى، فرئيس البرلمان الأوكراني المقرب من موسكو و الرئيس، أعلن استقالته، وأعضاء البرلمان المنتمون لحزب الرئيس، انسحبوا احتجاجاً على سفك الدم...في حين الولاء والشخصنة في سوريا، دفعت برلمانها لتأدية أكبر مسرحية هزلية في تاريخ الشعوب، وقت هبط شيطان الشعر على أعضائه وتورمت أيديهم لشدة التصفيق، ونداؤهم "لازم تحكم العالم يا سيادة الرئيس" ودم أطفال درعا لما يجف وقتذاك.
خلاصة القول: قد يكون من وجهة نظر محقة لمن نادى باللاسلاح، لأن النظام دفع بثوار سوريا ليكونوا عدواً متشابهاً، وقد تصح رؤية من يقول إن الدولة التي بنيت وفق قواعد أمنية لعقود، لا يمكن أن تسقط بأيام، وأيضاً قد يصيب من يرمي السبب لتشرذم المعارضة، بشقيها السياسي والعسكري، ودخول المعركة هنا وتأجيل فتح الجبهة هناك، لكني على ما أحسب، أن قرار عدم انتصار ثورة السوريين، هو القرار الوحيد المتفق عليه بين الكبار والوسطاء، فالجغرافيا السورية وتنامي الحالة الإسلامية الجهادية، حالتا دون تأييد السوريين، بل غُرر بهم ليساهموا، وإن مضطرين، لينفذوا أقذر مخطط قد يشهده العصر الحديث.
كما العادة، ولئلا أترك القارئ أمام خيار حفر قبره وانتظار الموت، أعتقد أن ثورة-كما السورية- أعادت فرز السياسة ورسم الجيوسياسة وعرّت كل ما كان ملتبساً وعلى الصعد كافة، لا يمكن إلا أن تستمر في إعطاء الدروس..وإن استمرت لسنين واستمر دفع ما لاطاقة لأهليها على دفعه.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية