أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الثورة السورية: المراجعاتُ أو الطوفان

كل شيءٍ في سوريا الثورة يحتاج اليوم إلى مراجعات. 

كل المواقف والأفكار والممارسات والمشاريع وأساليب التخطيط والإدارة والعمل تحتاج إلى مراجعة.

فرغم قصص العطاء والتضحية الكثيرة والمذهلة بشكل يبعث على الأمل، ورغم الكمون الهائل الموجود لدى شرائح الشعب السوري مما لا يعلم حقيقته إلا المتابع القريب، ومع كل اليقين المبني على استقراء سنن الاجتماع البشري وقوانينه بحتمية انتصار الثورة.

رغم كل ما سبق، لا يمكن التهرب من حقيقة وصول الثورة إلى حال من الفوضى العارمة على كل المستويات، بحيث افتقدت المبادرة إلى درجة كبيرة، وأصبح مسارُها العام سلسلةً من ردود الأفعال السياسية والعسكرية والإعلامية والإغاثية.

ثمة شبهاتٌ أساسية لابد من تحرير القول فيها حين تُعرض هذه القضية.

فالمراجعات بمعناها العلمي المطلوب ليست مسؤولية جماهير المواطنين من أهل الثورة الذين بذلوا، ولا يزالون، ما يستطيعون لدعمها واستمرارها، كلٌ في مجاله وحسب قدرته. والفوضى التي نتحدث عنها ليست مسؤوليتهم على الإطلاق. 

بل الأمر على العكس من ذلك تماماً، فإذا كان ثمة إنجازات وتَقدُمٌ للثورة، وهي موجودةٌ وكثيرة، فإنها ناتجةٌ قبل كل شيء عن العبقرية الجَمعية للسوريين من جميع الشرائح. فهذه العبقرية هي التي أطلقت الثورة ابتداءً، وهي التي فجرت مواقف وإبداعات جعلتها ظاهرةً فريدة من ظواهر التاريخ والحياة بشكلٍ عام.

ثم إن ما يُسمى عُرفاً بـ (النُخب) السياسية والعسكرية التحقت بعد ذلك بمسيرة الثورة، وصار لها بِحُكم طبائع الأمور في زمننا التأثيرُ الأكبر في مسار الثورة ومصيرها.

من هنا تحديداً، نتحدث عن مسؤولية هذه (النخب) التي تصدت لـ (إدارة الثورة) بلسان الحال وبلسان المقال، وعن ضرورة مسارعتها بعملية المراجعات، لاستعادة روح المبادرة وروح الإبداع وروح التنظيم التي ميزت بدايات الثورة، وكانت الشاهد على العبقرية الجمعية التي نتحدث عنها.

هناك فرصةٌ هنا أيضاً لاستعادة المعنى الحقيقي لكلمة (مسؤول)، من الآن، في حياتنا السياسية وفكرنا السياسي، تمهيداً لترسيخها في ثقافة سوريا الجديدة ونظامها. فدلالة (المسؤول) تعني أنه (يُسأل) عن عمله، وعن أدائه لواجبه من الناس في الدنيا، قبل أن يُسأل عنها في الآخرة. 

فـ(مسؤول) لا تعني أن يشعر صاحبها أنه أصبح زعيماً يجب أن يُطاع ويُبجّل، ولا يُسأل عما يفعل. وإنما تُلخص صفة المسؤول بوضوحٍ ودون كثير تنظير مقولة الفاروق عمر: "لو عثَرت بغلةٌ في العراق لخشيتُ أن يسألني الله لماذا لم تُمهّد لها الطريق يا عمر".

أما الشبهة الثانية فتتمثل في أن مثل هذه المراجعات تشغل الناس عن المهمة الأساسية المتمثلة في مقاومة النظام. ورغم إمكانية حدوث هذا إذا كانت النياتُ سيئةً، أو طريقة التفكير في المراجعات وتنفيذها تقليدية وفوضوية. إلا أن الحقيقة هي عكس ذلك تماماً إذا أردنا التفكير بطريقة علمية. فضلاً عن أن ممارسات وتجارب الأمم والدول عبر التاريخ تُثبت تلك الحقيقة عملياً.

فالنظام يعتاشُ عملياً، وبشكل تدريجي متصاعد، على أخطاء الأطراف السياسية والعسكرية، ربما بنفس الدرجة أو أكثر من جهوده الذاتية والمساعدات التي تأتيه من الخارج. 

ويصدق في هذا ما كان ينقله الشيخ محمد الغزالي رحمه الله من الأمثال والحِكَم العربية حين كان يُكرر: "إن البُغاثَ بأرضِنا يِستنسر" و"استأسدَ الحمَلُ لما استنوق الجملُ".

لا مفر هنا من التركيز قبل كل شيء على العناصر الرئيسية المتعلقة بالموضوع في ثقافتنا الأصيلة. فقد تكررت في صدر الإسلام المواقف التي يُصوﱢبُ فيها الوحيُ الرسولَ الكريم رغم مقامه المعروف، كما هو الحال مثلاً في قصة عبدالله بن أم مكتوم وغيرها، وجاء هذا التصويب وقتَ حدوث الأخطاء دون أي تأخير. 

ورغم احتمال استغلال (الآخر) لمثل هذا الموقف لإثارة البلبلة والتشويش بين الناس المُستهدفين بالدعوة، بقيت القاعدةُ تؤكد أن الاستمرار في الخطأ أخطرُ بكثير من أي ملابساتٍ أخرى يمكن التعامل معها بحكمة. 

وقد وعى الرسولُ نفسه هذا الدرس فعبرَ عنه في كثيرٍ من الوقائع لنَقلِ الدرس إلى أصحابه والناس أجمعين بشكلٍ عملي.

فقد وردت في الصحيح من السيرة النبوية الرواية التالية: "كان سواد بن عزيّة يوم غزوة أحد واقفاً في وسط الجيش، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للجيش: استووا، استقيموا. فينظر النبي فيرى سوادا لم ينضبط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: استو يا سواد، فقال سواد: نعم يا رسول الله ووقف ولكنه لم ينضبط، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بسواكه ونغز سوادا في بطنه قال: استو يا سواد، فقال سواد: أوجعتني يا رسول الله، وقد بعثك الله بالحق فأقِدني فكشف النبي عن بطنه وقال: اقتص يا سواد. فانكب سواد على بطن النبي يقبلها. يقول هذا ما أردت، يا رسول الله أظن أن هذا اليوم يوم شهادة فأحببت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك".

يغلبُ أن تُروى هذه الرواية في الثقافة التقليدية السائدة بطريقةٍ مُبتذلة كدليلٍ على طلب البركة، في حين أن معانيها الأصيلة، التي تتجاوز الغاية الشخصية لفرد، أكبرُ بكثير من ذلك، وتدخل في باب تحقيق المصالح العامة الكبرى. 

فنحن أمام نبيٍ قائد يقوم بنفسه بقيادة معركته مع جنوده، وهو قائدٌ يدرك تماماً معنى تسوية الصفوف (بدلالاتها الميدانية والنفسية في المعارك) فيقوم بذلك بنفسه. وهذا القائد لا يتسرع حتى في استخدام الحد الأدنى الرمزي من ممارسة التأديب، فيطلب من الجندي الاستواء أكثر من مرة، لكنه يلجأ لذلك التأديب الرمزي أخيراً. فيحصل ما حصل من الجندي، ويُسرع القائد لتنفيذ حكم قَصاص الجندي منه في خضم التحضير للمعركة، ودون أي تأخير، لأنه يعلم المُستتبعات العملية والمعنوية والنفسية، ليس فقط على ذلك الفرد، وإنما على الجيش بأسره، ويُدرك تأثيرها الحساس في المعركة.

ولنا فقط أن نتخيل ملابسات مثل هذا الموقف بين جنديٍ وقائد في واقعنا المعاصر إن كان هناك مجالٌ أصلاً لتخيله.

ثمة توازناتٌ ينبغي ويمكن أخذُها بعين الاعتبار طبعاً، لكن المرفوض هو تغييب آليات المراجعة والشفافية الحقيقية، والتعتيم على الأخطاء في هذه المرحلة بدعاوي (الظروف الحرجة) و(حساسية الموقف) و(وحدة الصف الوطني) وما إليها من الشعارات التي كثيراً ما تكون كلمات حقٍ يُرادُ بها باطل.

ويأتي سؤالٌ هنا: لمن يوجه النقد وعلى من تجب المراجعة؟ يُوجه طبعاً للأطراف المؤثرة ويجب عليها بطبيعة الحال. 

من هنا مثلاً، جاءت بعض مقالاتنا السابقة تحاول فتح ملف المراجعات، وتنتقد أداء أطراف مؤثرة مثل الائتلاف، والإخوان، والمثقفين العلمانيين السلبيين، وأصحاب الفكر التقليدي الإسلامي، وأهل الغلو والتطرف. لم يكن هذا على سبيل التخوين والمناكفة السياسية التي لا تجدي في شيء ولا تنفع سوريا وثورتها، ولا من باب (تصفية الحسابات الشخصية) كما اتهمنا البعض، ولا شيئاً من ذلك كله.

كل ما يتعلق بالثورة السورية إذاً يحتاج إلى مراجعة. ولكن كيف تكون؟ ومن يقوم بها؟ وما هي ملابساتها المختلفة؟ هذه أسئلة تحتاج إلى مزيدٍ من العرض والحوار.

نشرت سابقا في صحيفة "الشرق" القطرية
(172)    هل أعجبتك المقالة (183)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي