أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

عن مؤتمر جنيف وتنشيف البيضات

حدث أنني قررت الهجرة من جديد بعد مضي عشرة أعوام على هجرتي الأولى إلى كندا. فقد بررت فشلي في القدرة على كسب عيش محترم، بأن شروط كندا لكسب المال والعمل صعبة، ولم أناقش نفسي أبدا، أو أطرح التساؤل، إنه من الممكن أن يكون العيب بي وحدي، ولا علاقة لكندا في فشلي، لذلك سرعان ما اقتنعت بالسفر إلى جزيرة "غوادلوب" الفرنسية في الكاريبي، حيث أخي وابن عمي هناك، وهما أصلا من شجعني على فكرة الهجرة إلى هناك، فكسب المال سهل، ولا يحتاج إلا للتنقل بين القرى حاملا بضاعتي في سيارة أو محفظة ثياب كبيرة، على مبدأ بياع "الكشي"، الذي كان يُطلق عليه "الكشيش"، وكان سائدا في سوريا ولبنان في القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث البائع كان يجول القرى مع حماره المحمل بكل ما تحتاجه تلك القرى المنعزلة عن بعضها، وعن المدن من حاجات بسيطة كالخيطان والإبر والأقمشة وغير ذلك، وكان أسلوب التجارة هذا، هو ما اقتبسه وطبقه السوريون واللبنانيون في الأمريكيتين مع وصولهم إلى هناك، وبقي ذاته مع أحفادهم ومع القادمين الجدد، كل ما في الأمر أن وسيلة التنقل تغيرت، فحلت السيارة الخاصة مكان الحمار، وباص النقل العام مكان القدمين، أما العقل وطرق عمله فقد بقيت نفسها تقريبا، وهذا ما كنا نلاحظه في نظرة "الكشيش" العنصرية والدونية إلى الرجل الأسود، ففي الوقت الذي كان يسرقه نقوده ويبيعه أشياء ليس بحاجة إليها بأضعاف سعرها الحقيقي كان يعامله وكأنه السيد الأبيض، والأسود عبد من عبيده..

كان أغلب السوريين الموجودين في الجزيرة من أصول ريفية، ومن قرى حمص وطرطوس وحماه، وهم استمرار لهجرات بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والقرن العشرين، فقد كان من النادر أن تجد مهاجرا جديدا ليس له قريب من العائلة أو صديق من نفس القرية، ولم يكن القادم الجديد بحاجة إلى المال كي يصبح "كشيشا"، لأن أغلب تجار الجملة هم من المهاجرين القدماء، ويكفي الذهاب إلى أحدهم لطلب البضاعة اللازمة للعمل، دينا، جتى يجد طلبه. يبدأ نهار العمل عند "الكشيشة" ما بين التاسعة صباحا والحادية عشر قبل الظهر، وينتهي في أغلب الأحيان ما بين الواحدة والثالثة بعض الظهر، وتكون حصيلة اليوم المالية كافية، في أغلب الأحيان، لشراء الطعام وثمن القهوة والكحول، أما مساء فتجد الجميع؛ الكشيش وبائع الجملة في البيوت التي تم تحويلها إلى أماكن للعب القمار، حيث يتنازع الجميع على ما تبقى في جيوبهم من مال جمعوه من السكان الأصليين، ولولا قوانين البلد التي تمنع استخدام المسدسات والسواطير لكنا شاهدنا البعض يستخدمها في سهرات القمار تلك، من أجل حفنة من الفرنكات، لا يردعه ضمير أو أخلاق.

كنت في فترة الأشهر الثلاثة التي أمضيتها هناك، قبل العودة إلى كندا، أرافق أخي الصغير في حله وترحاله، فقد اكتشفت أنني "كشيش" فاشل، ومن الصعب عليّ تعلم هذه المهنة، لأن جزءا من أصولها يجب أن يتعلمه الإنسان في بيت أهله، لذلك اكتفيت بمرافقة أخي في عمله ببيع أكياس البلاستيك في أسواق الخضرة، وزيارة بعض السوريين من وقت لآخر في بيوتهم. وقد لفت انتباهي بشدة، أن السوريين هناك لا علاقة لهم بمحيطهم، إلا في لحظات البيع والشراء، أما ما تبقى من وقتهم وعقلهم فإنهم يمضونه فيما بينهم، مستحضرين من قراهم أسوأ عاداتها وأخلاقها.

قرر أخي أن يخفف من عزلتي، فاصطحبني أحد الأيام إلى بيت أحد السوريين ليعرفني عليه، مفترضا أننا قد نتفق في الأفكار، فهو من عمري تقريبا، وكان مدرسا للرياضيات في بلدته قبل الهجرة. اسقبلنا أخوه على الباب مرحبا وقائلا إن أخاه في الحمام يأخذ دوشا، فحرارة الطقس عالية وكذلك نسبة الرطوبة في الهواء. خرج الرجل من حمامه بعد دقائق لا بسا "برنس" التنشيف ومرحبا، ثم قام يحضّر القهوة، فهو عازب مؤقت، زوجته وأولاده في سوريا كأغلب المهاجرين الباحثين عن الثورة المفقودة في وطنهم الأصلي. قام الرجل بكل واجبات الضيافة للسوري القادم من كندا، شارحا في الوقت نفسه أهمية الفكر الرياضي العلمي ومتحدثا عن دور المعلمين والمدرسين في نهضة أي شعب من الشعوب في العالم، وعن أهمية وضرورة الأخذ بالمنهاج العلمية في التحليل والتركيب، ثم انتقل في حديثه إلى المناخ والحرارة والرطوبة، مقدما مثالا عمليا حيا عن العلم، فقال: انظروا لي، مشيرا إلى ما بين ساقيه، فأنا بعد كل حمام أو دوش لا أرتدي ملابسي الداخلية فورا، وإنما أنتظر ساعة على الأقل كي تتبخر كل الرطوبة عن "بيضاتي"، وقد أستخدم هذه المفردة لأن الجميع ذكور.

كان الغيظ من كلامه قد وصل في صدري إلى البلعوم، فسألته: أستاذ، على افتراض أنك ارتديت فورا ثيابك الداخلية، ماذا سيحدث؟

قال بكل جدية: يا أستاذ، أنتم اهل الأدب والصحافة لا تقدرون قيمة العلم، لو حدث ولبست كلسوني فورا، فإن العفن سيصيب بيضاتي نتيجة انقطاع التهوية وبالتالي بقاء الرطوبة عليهما.

قلت له: تقصد أن العفن يصيب البيضات على طريقة صنع "الشنكليش" عندكم في القرية، حيث يتم وصع "القريشة" في جِرار من الفخار ثم يتم إحكام إغلاقها كي يمنع الهواء تماما من الدخول وملامسة أقراص القريشة التي ستتحول نتيجة التعفن إلى "شنكليش". قال الرجل مدهوشا: نعم هي هكذا. قلت له: أستاذ، بقي عندي سؤال واحد فقط: هل أنت من محبي سيادة الرئيس حافظ الأسد ؟ وكنا في صيف عام ١٩٩٩. قال: طبعا، وهل عندك شك في ذلك؟
كتبت كل ما سبق، ليس للتشهير بالمهاجرين السوريين أو غيرهم، ولا بأصولهم الفلاحية أو المدينينة، وإنما لأقول كلمة صغيرة، إننا جميعا تقريبا بعيدون عن استخدام عقولنا عندما تتعارض معطيات الحياة اليومية مع موروثنا المعرفي القديم، ونميل فورا إلى تبني ما ورثناه من معارف أهلنا ومحيطنا، ولهذا نرى ولاء الطبيب والمحامي والمدرس والقاضي والضابط وغيرهم إلى طوائفهم وقبائلهم ومناطقهم أكثر من ولائهم لوطنهم ولشعبهم، أكان ذلك في المعارضة السياسية أم في الموالاة، ولقد رأيت ذلك في اسطنبول وسمعت عنه في القاهرة والأردن ولبنان وأوروبا، وفي كل مكان يوجد فيه سوريون.
إن قراءة البعض لمجريات ونتائج مؤتمر جنيف ما هو إلا نوع من تنشيف "بيضات" رجال السياسة السوريين المعارضين والمؤدين، بما في ذلك "بيضات" بعض النساء اللواتي كن في الوفود.

إنه العفن العقلي أيها السادة، قبل أي شيء آخر.

(123)    هل أعجبتك المقالة (126)

Akram Elias

2014-02-04

عذرا ميخائيل سعد ليس كل قارئ مرهف إلى حد استشراف ما تود إيصاله. نريد بث الأمل وتعريف الناس بما ينبغي عليهم فعله ، وأما بيان العفن فهو ظاهر للعيان بما في ذلك عفن استغلال الأوضاع لزيادة عفنها أو للتعالم من معفن على بقية المعفنين. وعفنكم كفاية أكرم إلياس هال / المملكة المتحدة.


ابو مجد

2014-02-06

Akram Elias هل مضمون تعليقك وانتقادك على المقال وعفونة استاذ الرياضيات أم على شخص الكاتب ولماذا ؟ أم انت هو الا ستاذ لمقصود لم نرى أي سبب لتهجمك على تجربة عاشها الاستاذا ميخائئل شخصيا الذي نكن له كل التقدير ولتقبل النقد كما تسمح لنفسك بنقد الاخرين.


الهرمزان الصفوي

2014-03-04

المشكلة في مباحثات جنيف انها تنشيف بيضات الداعمين لكل طرف فالقطبان اتفقوا على مهزلة لاضاعة الوقت لعل النظام يستطيع شيئا بالتجويع و القتل الى اخره و الدعمين المباشرين نصحوا الطرفين بالقبول و تخيل حوار الطرشان بين من هو متهم من قبل امه بالتخاذل لسحبه جيشه من لبنان لان المقبور قالها كلمة سوريا و لبنان ملكا لال الاسد لاخر الزمان و من يريد سوريا ديمقراطية و حرية حسب ما وجد البشر يحيون و يعلم ان مواطنيه في بلده الاصلي يستحقون هذم الحياة و رحمة بالمسكين رضوان لانه سيضطر لفتح ابواب الجنة لكل السوريين بحسبهم ما نالهم بحياتهم من اذلال البشر لذا هو تنشيف بيضات الامريكان و الروس..


التعليقات (3)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي