حديث الثورة "صور حافظ وولده الأهبل"
إن المتظاهرين الأوائل الذين كانوا يتطلعون إلى إقامة دولة سورية مدنية، عصرية، يسودها العدل، والديمقراطية، وتؤسس للتداول السلمي للسلطة، كانت لديهم حساسية قوية تجاه صور الديكتاتور حافظ الأسد وتماثيله وصور وريثه الأهبل بشار الأسد.
كانوا يمزقون الصور، ويكسرون التماثيل حيثما يجدونها، بكراهية وغل كبيرين، لأنها، في الواقع، رمزٌ لعبودية هذا الشعب، واحتلال أرضه واستيطانها من قبل ذلك الجنرال الذي كان، وما يزال، في نظرهم على الأقل، متهماً ببيع الجولان لإسرائيل.
***
أول اعتصام سلمي دُعينا إليه، في مدينة إدلب، كان يفترض أن يضم ناشطين من النقابات المهنية: مهندسين وصيادلة وكتاباً ومحامين ونساء.. الساعة الثانية ظهراً أمام نقابة الصيادلة في شارع المستشفى الوطني.
كنت قد وضعت أدوية القلب والمفصل في كيس نايلون في جيبي، وذهبت إلى المكان المحدد، واضعاً فكرة الاعتقال في حسباني. وكانت خيبة أملي رهيبة حينما لم أجد هناك سوى الصديق المهندس (علي غ.). الذي بادأني بالقول: يبدو أن الاعتصام سيفشل. اقترب الموعد ولهلق ما في حدا.
قلت له: التمس للناس عذراً بعد نصف قرن استبداد وخوف..
ولكن الشباب أعادوا لنا الروح حينما بدؤوا يتوافدون إلى المكان، ويتجمهرون، بالعشرات، على الرصيف المقابل لنقابة الصيادلة.. وبعد وقت قصير حضر عدد من منظمي الحراك الثوري يتقدمهم أبو يحيى أحمد مشقع (الذي استشهد لاحقاً)، وبدأ الهتاف للحرية، والكرامة و(سوريا لنا ما هي لبيت الأسد).. وسرعان ما تحول الاعتصام إلى ما يشبه المظاهرة الصاخبة..
وفجأة سمعنا طقطقة شيء معدني صلب. نظرنا إلى الأعلى وإذا بمجموعة من الشباب الشجعان قد تسلقوا سطح النقابة وبدؤوا يكسرون تمثالاً برونزياً لحافظ الأسد، وهتف أحدهم بنا أن نبتعد عن رصيف النقابة، ثم ركله برجله ليسقط أمامنا كجثة هامدة!..
(والشباب مَثَّلُوا بالتمثال تمثيلاً)!
***
إن حافظ الأسد الذي اشتغل خلال سنوات حكمه الكريهة على (تقديس) شخصه قد استطاع أن يجعل الاقتراب من صوره وتماثيله خطاً أحمر، وكان جلاوزته ينتقمون ممن يتطاول على هذه القدسية على نحو مرعب.
حدثني الصديق سمير سعيفان، قال:
حدثني «دانيال نعمة» عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري وعضو الجبهة الوطنية التقدمية، أن أحد أعضاء الحزب الشيوعي، وكان مديراً في وزارة المواصلات، انتبه إلى أن إحدى الموظفات ألصقت صورة لحافظ الأسد على الزجاج الفاصل بين غرفته والكوريدور، كيلا يشاهدهم ماذا يفعلون، أو لا ينتبه لهم إن غابوا لبعض الوقت، فقام بنزعها، ووضعها في مكان آخر، فأبلغت أحد الأجهزة الأمنية بما حصل، فتم اعتقالُه، ولم تنفع الشروحات والتوضيحات ولا تدخلاتي الشخصية من أجله، وبقي في السجن ثماني عشر شهراً بالتمام والكمال.
***
أحد الضباط الكبار في ما يسمى بـ "الجيش العربي السوري" وَقَعَ، بحسب ما روي لنا، في مأزق من نوع الـ "حيص بيص"، حينما أبلغته القيادة بضرورة توسيع مقر قطعته العسكرية، ويكون ذلك بهدم السور الجنوبي للمقر الذي تتوسطه صورة كبيرة للدكتاتور حافظ الأسد..
استمر الضابط الكبير يومين، وبعض يوم، وهو يمارس الرياضة، والاسترخاء، ويدخن، في النهار، وفي الليل يشرب الكحول، ويحشش، وهو يفكر في حل لهذه المعضلة الكبرى، إلى أن اهتدى إلى فكرة مدهشة، فقفز من مكانه مثل أرخميدس حينما اكتشف الإزاحة وهو جالس في بانيو الحَمَّام صائحاً: (وجدتُها).
في الاجتماع الصباحي نفذ خطته المكتشَفَة.. أمر قادة الكتائب والسرايا والوحدات التابعين له بالتحرك، وفق الخطى العسكرية القوية، نحو "صورة القائد" وتقديم التحية لسيادته..
ففعلوا. وتقدم هو إلى الأمام، ورفع يده بالتحية وقال:
أستأذنك سيدي الرئيس بإزالة هذا الجدار لما في ذلك من مصلحة شعبنا العظيم الذي تقوده سيادتك وسوريا الحديثة التي تبنيها..
والتفت إلى الخلف، وأعطى أمراً للجرافات بأن تتقدم وتبدأ بالهدم.. وأما هو وبقية الضباط وصف الضباط والأفراد فقد توجهوا نحو الساحة التي كان يتواجد فيها طبال محترف وزمار (أخو حفيانة)، واشتغل الرقص والغناء.. وفي ذلك اليوم التاريخي أمر الضابط الكبير بـ (تحسين الطعام) لهؤلاء الجنود الذين يحبون قائدهم إلى حد أنهم يدبكون حينما تُعَلَّقُ صوره، ويدبكون حينما تزال.. يدبكون حينما يخطب، ويدبكون حينما يسكت، وحينما يمرض، وحينما يشفى.. ومستعدون دائماً لقتل كل من تسول له نفسه أن يعتدي على سيادته.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية