اشتهرت مدينة حمص قبل حالة الإفناء التي تعيشها اليوم، بكثرة مقاهيها التي كانت جزءاً لا يتجزأ من نسيجها الاجتماعي، وكان لها دور كبير في التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي شهدتها هذه المدينة في القرن الماضي، وربما قبل ذلك، حيث كان عدد هذه المقاهي يقارب الأربعين مقهىً منها ما هو خارج سور المدينة ومنها ما هو داخل السور، وقد اندثر اليوم أغلب هذه المقاهي القديمة وظل مقهيا "الروضة" و"الفرح" دلالة على ماضٍ استثنائي في عراقته.
وبرزت منذ سنوات ظاهرة شهدتها باقي المدن السورية كدمشق وحلب وهي استثمار المباني الأثرية المتهالكة كالخانات والبيوت القديمة، وتأهيلها كمقاهٍ تعيد للناس بعضاً من ماضيهم، وتنفض عن قلوبهم وذاكرتهم غبار التعب في زمن أصبحوا محاصرين فيه داخل كتل أسمنتية صلدة غدت أشبه بسجون بلا قضبان.
كانت بعض مقاهي حمص في النصف الأول من القرن الماضي عبارة عن دكانين ملتصقين أو دكان واحد بالنسبة لمقاهي الحارات القديمة، وتوزعت هذه المقاهي داخل السور الأثري وخارجه كما قلنا آنفاً، ومن المقاهي التي بُنيت داخل السور"قهوة الحمام" في حي بني السباعي و"قهوة الدباغة" في الحسبة و"قهوة النصارى" في زقاق بني فركوح و"قهوة الجمرة" قرب مقام أبي موسى الأشعري و"قهوة باعوصة" وقهوة "صليبة العصياتي".
ومن المقاهي التي انتشرت خارج السور"قهوة المنظر الجميل" إلى الغرب من سينما حمص و"قهوة الزهراوي" إلى الشرق من باب تدمر و"قهوة بيهم" على طريق حماة مكان بناء قصر الحمراء الحالي.
![](http://www.zaman-alwsl.net/uploads/2112e059ed1877d3c7bad245da04ec3d.gif)
قهوة الحمام:
كان من الشائع أن يذهب الرجال إلى المقاهي وبعض المسنين من غير رجال الدين، فالشيوخ ورجال الدين يمنعهم وقارهم من ارتيادها والأطفال تردعهم آداب السلوك عن دخولها، أما النساء فقد كانت محظورة عليهم بتاتاً كما أكد لنا بعض كبار السن في حمص ممن عايشوا تلك الفترة.
وفي تلك المقاهي كان الرواد يمضون الهزيع الأول من الليل وهم يلعبون (الضاما) أو طاولة الزهر –أي النرد– ويدخنون النراجيل أو سجائر اللف وكان بعضهم يضيِّف الآخرين السجائر أو النارجيلة نفسها.
وتعد قهوة الحمام من أقدم المقاهي الشعبية في حمص وأطولها عمراً، إذ يعود تاريخ تشييدها إلى عام 1851 وهي مبنية من الحجر الأسود الذي اشتهرت به حمص، وبداخلها قنطرة جميلة تقسمها إلى قسمين وتطل من الغرب –حيث بابها الرئيسي– على ساحة تحيط بها الدور والدكاكين وهي لا تزال موجودة إلى الآن لم تتأثر بمظاهر التحديث التي تحيط بها، ولا يزال أثاثها الحصيرُ على الأرض وكراسي القش الصغيرة للجلوس والاتكاء، ولا تزال تُربى فيها أسراب الحمام كما كانت منذ أكثر من قرن ونصف، ومن هنا جاءت تسميتها (قهوة الحمام) وكانت قهوة الحمام في تلك الفترة ملتقى لزعماء الأحياء المجاورة ورجالاتها وكانت مركزاً للمحامين ومعقبي المعاملات, لأنها كانت تتوسط المدينة وتجاور السرايا القديمة في سوق الحبّ، وبالرغم من التطورات الكبيرة التي مرت بها مدينة حمص اتساعاً في المساحة وتحديثاً في نمط الحياة والعمران فقد بقيت قهوة الحمام شاهداً حياً على حياة المدينة خلال أكثر من قرن ونصف من الزمن.
![](http://www.zaman-alwsl.net/uploads/fe1ac336f9b601a4b74576a6ff555cef.gif)
عبد الوهاب وطه حسين:
ومن المقاهي القديمة في حمص التي اكتست اليوم مظهراً عصرياً وطالتها رياح الحداثة "مقهى الروضة الأثري" بقسميه الصيفي والشتوي، الذي يُعد من أشهر المقاهي السورية، وكان هذا المقهى في مطلع القرن العشرين ملتقى النخبة من المثقفين ورجال الفكر والسياسة، كما شهد أول لقاء بين الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب وأهل حمص وكان ذلك في يوليو عام 1930، كما ألقى فيه الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي محاضرة عن الشاعر ديك الجن الحمصي في الأربعينات من القرن الماضي.
وعلى مسرح الروضة أقام العديد من الفنانين المشاهير مسرحياتهم وأعمالهم الفنية كـ"يوسف وهبي" و"إسماعيل ياسين" و"نجيب الريحاني" و"بشارة واكيم" و"صباح" و"نجاح سلام"، كما شهد هذا المقهى معظم التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها سوريا خلال القرن الماضي ولاسيما أن جلّ روّاده كانوا من رجال الأدب والسياسة، ومع رشفات فنجان القهوة ودخان السجائر كان جزء كبير من تاريخ البلاد يُصنع وتُطلق فوق طاولاته الإشاعات والنُكات والطُرف، وخصوصاً أيام الانتداب الفرنسي، مما جعل سلطات الانتداب الحاكمة تغلق المقهى أكثر من مرة، وعندما نالت سوريا استقلالها عاد مقهى الروضة ليراقب الأجواء السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويصدر تعليقات رواده وآراءهم المختلفة لتنتشر في الشارع وتصبح على كل لسان.
ويمتاز مقهى الروضة الشتوي المصمم معمارياً على نمط دور الأوبرا العالمية بالذوق المعماري الرفيع، إن كان في الأدراج والسلالم الرخامية أوالبلكونات التي أخذت شكل نصف قوس، أو النوافذ والمشربيات والأقواس القوطية العربية وغيرها من البصمات الحرفية التي عانقت توليفاتها الطُرز التي عمرّت ذاكرة حمص الجمالية –أم الحجارة السود.
![](http://www.zaman-alwsl.net/uploads/01ad6609adee92bacfaa4aa267ab0cdb.gif)
ديغول وبائعة المقشات !:
ومن مقاهي حمص القديمة التي لا زالت قائمة إلى الآن مقهى الفرح الذي يقع على مرمى حجر من مقهى الروضة مقابل ساعة كرجية حداد الشهيرة، وقد شُيِّد هذا المقهى أوائل القرن الماضي كما تقول لوحة حجرية مثبتة على الواجهة الخلفية للمقهى، وعلى الرغم من أن التصميم المعماري لهذا المقهى يبدو بسيطاً وعفوياً إلا أنه لعب هو الآخر دوراً هاماً في الحياة الاجتماعية للمدينة، وعاصر هذا المقهى دخول الفرنسيين إلى حمص، ويُذكر أن الجنرال ديجول عندما زار بلدية حمص وثكنة "الدبويا" ألقى خطاباً أمام واجهة المقهى، ويروي كبار السن من رواد المقهى أن إحدى المتظاهرات الحمصيات ضد الاحتلال الفرنسي وكانت تدعى "كوكب" وهي بائعة مقشات رأت ديجول يخطب أمام المقهى فعنّفته قائلةً له: "لعن الله حكومتك يا ديجول". فابتسم لها لأنه لم يفهم ما تقول.
وارتبط المقهى كذلك بأسماء عدد كبير من المشاهير آنذاك، ومنهم شعراء حمص: أحمد الجندي وعبد الرحيم الحصني ورفيق فاخوري والأديب الكبير محيي الدين درويش، ومن المطربين عبد الغني الشيخ وعلي العريسي وفتحية أحمد التي غنّت فيه عام 1931 والمطربة إنصاف منير ومطرب حمص الشهير نجيب زين الدين وعبد الرحمن الزيات، كما ارتبط تاريخ المقهى بعدد من ثوار حمص على الاحتلال الفرنسي الذين كانوا يتخفون فيه، ومنهم "خيرو الشهلا ونظير النشيواني وعمر المجرّص والحاج مصطفى رمضون"، الذين أذاقوا قوات الاحتلال الفرنسي الويلات وسطروا ملاحم نضال لا تُنسى، . وكان مقهى الفرح في السنوات الأخيرة مهدداً بالزوال من قبل بعض المتنفذين الذين أرادوا أن يهدموه ويحولوه إلى كتل اسمنتية كما هي أكثر مباني حمص ومنشآتها اليوم لولا غيرة بعض المثقفين والمهتمين وهواة التراث الذين وقفوا سداً منيعاً حال دون إزالة المقهى وهكذا استعاد المقهى في السنوات الأخيرة ما كان عليه عبر لمسات جمالية تحاكي روح الأصالة والتراث.
![](http://www.zaman-alwsl.net/uploads/474f02b9ebc0fc22e92ff8f3c74484d2.gif)
مقهى السور الأثري
ومن المقاهي الحديثة التي أخذت طابعاً تراثياً مقهى السور الأثري الذي أقيم على أنقاض خان قديم ملاصق لسور حمص بالقرب من أحد أبراجه الأثرية الباقية ويوفر هذا المقهى لزبائنه أجواء تراثية نادرة في مدينة فقدت الكثير من سماتها المعمارية والتراثية، ويمتاز المقهى بارتفاعه عما جاوره وبحجارته السوداء التي امتازت بها مدينة حمص، وتتوزع في أركان هذا المكان التراثي المميز الكثيرُ من العناصر التزيينية التي تضفي عليه جواً يعبق بروح الأصالة والتراث، كالركن العربي الذي تتوزع في جنباته قطع النسيج اليدوي البديعة، والطاولات الخشبية المصنوعة بطريقة عفوية تضفي على المكان أجواء حميّميّة تعيدنا إلى ذكريات الزمن الماضي الجميل. وتتوزع على جدران المقهى بعض اللوحات الفوتوغرافية التي ترصد جوانب معمارية واجتماعية من مدينة حمص أوائل القرن الماضي.
وثمة مقاهٍ عصرية أخرى كـ "مقهى الأندلس" و"مقهى غرناطة" و "مقهى التوليدو" و"مقهى جورة الشياح " الذي انزوى في شارع فرعي بعد تهديم مبناه القديم الذي كان يطل على شارع جورة الشياح الشهير، وتشبه بعض هذه المقاهي ذلك النمط من المقاهي التي انتشرت على ضفاف المتوسط كإيطاليا وفرنسا وأسبانيا، وتعتبر هذه المقاهي بجلساتها الرصيفية المميزة ملتقى لمثقفي حمص وسط أجواء يختلط فيها دخان السجائر والنراجيل وصخب أصوات طاولات النرد والشطرنج بحمّى النقاشات والأفكار التي تعكس نبض الشارع.
خالد عواد الأحمد - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية