في أيلول ١٩٦٩ التحقت بسلك التعليم كمعلم ابتدائي، وذلك بعد شهرين من تخرجي في دار المعلمين بحمص، قبل أن أبلغ العشرين من عمري بثلاثة أشهر. كنت أظن، وأنا الذي قرأ مئات الروايات والكتب الوجودية، أنني أملك الكون بيميني؛ لأنني أملك المعرفة بيساري، كما كنت أتوهم. قرأت في الجريدة أن الوزارة "فرزتني" إلى مديرية تربية حلب، وعليّ الالتحاق فورا بعملي الذي ستحدد مكانه مديرية التربية، ولما كنت قوميا واشتراكيا وشابا فقد نفذت الأمر دون تردد، وذهبت إلى تربية حلب فقابلت الموجه التربوي الذي قال لي: نصيبك أن تكون المعلم الأساسي والوحيد في قرية "مكحلة"، وهي في "مطخ حلب"، ودلني الرجل مشكورا على "الكراج".
كنت قد سمعت عن حلب، وكشاب لم يبلغ العشرين من عمره، كان سوق "بحسيتا" هو حلمه، ذلك الاسم الذي اقترن باسم المدينة في أذهان الباحثين عن الحب، لذلك قبل الذهاب إلى "مكحلة" قمت بزيارة "باب الفرج" الذي قادني إلى الشارع المؤدي إلى "بحسيتا"، وكان هناك على الباب، وقبل الدخول، منظر أرعبني وغيّر خططي بالدخول، فقد رأيت امرأة سمينة، خمسينية كاشفة عن فخذين مترهلين، مع طلاء أحمر يتجاوز كثيرا الشفتين، كي يصرف النظر عن أسنان مفقودة، سقطت مع الزمن من كثرت أكل الحلو ومشروب الحب المعتق، محطمة بحقيقة حضورها القوي الصورة التي كونتها أحلامي عن المرأة التي سأمارس الحب معها، على الأقل في المرة الأولى.. فقررت فورا الحفاظ على عذريتي والذهاب إلى القرية.
أولى المفاجآت كانت عدم وجود سيارة للقرية، لأنه لا يوجد طريق إليها أصلا، فكان علي السير بحدود الساعة مع حقيبتي التي تحتوي ثيابي وكتاب تاريخ الأدب الجاهلي لشوقي ضيف، كي أتباهى على سكان القرية، فإضافة لكوني معلم قريتهم، فأنا طالب جامعي أيضا (اكتشفت فيما بعد أن كل شهاداتي "بتسوى فرنك" عند الفلاحين).
المفاجأة الثانية التي كانت تنتظر معلم القرية الجديد، هي شلة من كلاب الحراسة التي خرجت من بيت متطرف عن القرية، ويقع على الطريق الترابي، فهاجمتني بعد أن وضعت الخطط اللازمة لذلك، أحاطوا بي مثل "الأسوارة"، ورغم رعبي منهم ومن نباحهم، فقد لاحظت كيف أنهم يتغامزون قبل شجن الهجوم، وفسرت ذلك بأنهم ربما التقطوا في ذلك الغريب الأجنبي الذي قاده قدره لتكون قدميه وساقيه مضغة سهلة لا يحاسبهم الله عليها، ومع كل هجوم كنت أدور حول نفسي رافعا محفظتي بيدي كدريئة تحميني من أنياب الكلاب... من حسن الحظ لم يطل الوقت، فقد خرجت صاحبة البيت لتعرف ما هو الخبر الذي يحمل كلابها على النباح، فوجدتني على حافة الانهيار بعد هجومين كاسحين من الكلاب الأربعة.
المفاجأة الثالثة التي كانت بانتظاري، والتي كشفت جهلي بعادات مجتمعي، وأنا الذي كنت أظن انني خبير بها نتيجة خروجي من قوقعة الأديان والطوائف والمناطق.. حصلت عندما وصلت "منقذتي" من الكلاب إلى قربي، فمن شدة حماسي لها، وعرفانا مني بجميلها كدت أن أعانقها رغم أنها امرأة ستينية تشبه جدتي، يملأ الوشم وجهها، ولكنني تمالكت نفسي مكتفيا بمد يدي إليها لمصافحتها، كانت الابتسامة العذبة لا تغادر الشفتين الرقيقتين والعينين السوداوين، دون أن تمد يدها، مر وقت طويل لا أعرف مدته، قبل أن أتذكر أن المرأة المسلمة لا تصافح الرجل الغريب، فأعدت ذراعي إلى مكانها، ولما عرفت أنني المعلم الجديد في القرية، علمتني شيئا جديدا قائلة: عندما تهاجمك الكلاب مرة جديدة، لا تبق واقفا، حاول أن تطوي ركبتيك لتكون قريبا من الأرض، عندها ستتوقف الكلاب عن مهاجمتك، لأنها تعتقد بذلك أنها انتصرت عليك واستسلمت أنت لها، شكرتها على "الدرس المهم" وأكملت سيري إلى القرية.
لم يكن في القرية بناء مدرسة، وكنت المعلم الوحيد لحوالي أربعين طالبا موزعين على الصفوف الستة، وكان مكان نومي في مضافة القرية. كانت القرية ورجالها ونساؤها وأطفالها مشغولين بموسم قطف القطن، فهو مصدر القرية الوحيد للعيش، لذلك تكثر فيه الحركة والزيارات من كل نوع، فمن زيارات "النور" ومشعوذيهم إلى زيارات رجال الشرطة ودورياتهم غير المفيدة، إلى حلقات "ضرب الشيش"، إلى البائعين المتجولين، إلى لصوص القطن والمال، وهم الاخطر.
أحد الأيام، جاء "خَلَف"، وهو "آذن" المدرسة وخادم المضافة، والعازب الأربعيني الذي لم يستطع الزواج لفقره وعدم قدرته على تأمين المهر، والذي كان وحيد أهله فلا أخت عنده ليبادلها على زوجة محتملة.. جاء ليقول لي إن المختار يدعوني إلى "بيت الشعر" للغداء مع وجهاء القرية وضيفهم الحلبي الكبير الشيخ حمدان، واستفاض "خلف" في الحديث عن الشيخ المزعوم. كانت تلك المرة الأولى التي يدعوني فيها المختار بهذه الطريقة، بعد مضي شهر على وجودي في القرية. عندما دخلت "بيت الشعر" قام الرجال جميعا للسلام علي وللترحيب بي، وكان تلكؤ الشيخ حمدان في النهوض واضحا للجميع، لم اهتم بهذا التفصيل الصغير في بداية الجلسة، ولكن عرفت فيما بعد أنه كانت مقصودا، ليقول لاهل القرية بطريقة غير مباشرة أنه أهم من معلم قريتهم و"أفهم" منه، فهذا الرجل الخمسيني، الضخم الجسد، الجهوري الصوت، الأزرق العينين، ذي اللحية الشقراء القصيرة، لا يتوقف عن الكلام، يحفظ عشرات القصص والأمثال الشعبية وقصص الأمراء والأبيات الشعرية والآيات القرانية وقصص الأنبياء، وكل ما يسحر الفلاحين.
كان من الواضح أنه يريد أن ينزع عني أي "شرعية" في إمكانية "تمثيل" الناس أو بعضهم، قبل أن يقول لي: تفضل أستاذ، هل تستطيع أن تحكي لنا عن الأدب العربي الذي تدرسه؟ كان سؤالا استفزازيا الهدف منه النيل مني. قلت له وللآخرين بصوت مضطرب: أنا طالب جديد في كلية الآداب، ليس عندي الكثير لأقوله، ولا أعرف الكثير، ولكن لفت انتباهي وأنا أدرس الشعر الجاهلي، أن بعض المفردات العربية التي يتكلمها الناس الآن، في هذه القرية، عمرها 1400 عام على الأقل، وهذا يدل على أن نمط حياة الناس مستمر منذ ذلك الوقت وحتى الآن. فقال ساخرا: ولكن في ذلك الوقت لم يكن عندهم قطن ليهتموا بقطافه وبيعه.. ضحك الناس، وشعرت بحجم الطعنة التي أصابتني بلهجته الساخرة، وصمتُّ.
تشعبت الأحاديث بعد وجبة "الثريد"، وعرفت أن الشيخ حمدان جاء إلى القرية لاسترداد ديونه على الفلاحين، من خلال نهب أقطانهم، فمثلا من استدان منه 100 ليرة خلال العام عليه أن يعطيه من قطنه ما قيمته 300 ليرة أو أكثر، وأثناء الحوار مع الفلاحين كان اسم "الله" حاضرا على لسانه كسيف من سيوف "داعش" هذه الأيام، يقطع به رأس أي فلاح يحتج على السرقة العلنية التي يقوم بها.
حسبتُ حساباتي، وعرفت أنني في معركة خاسرة: فهو شيخ واأا معلم، وهو صاحب خبرات كثيرة وأنا فقيرها، وهو يستخدم الدين سلاحا لمصلحته، لا يستطيع الناس رده، وأنا لا أعرف ذلك، وهو "شيخ" مسلم وأنا معلم مسيحي، وهو غني وأنا فقير، وهو يفتي لهم بتحويل أطفالهم الى عمال مؤقتين لقطاف القطن، وانا أريدهم في المدرسة، وهو "مصرفهم" الذي يستدينون منه طوال العام، وأنا "مصرفهم التعليمي" الذي يعلم أولادهم الحروف مجانا.. لكل ما سبق قررت الانسحاب من "بيت الشعر"، ولكن قبل ذلك قلت وأنا أقف، موجها كلامي للشيخ حمدان:
صحيح أن الله حلل التجارة والربح الحلال، ولكن أعتقد يا شيخ حمدان أن الله لعن الربا والمرابين منذ ١٤٠٠ عام، مهما كان لون الثياب التي يرتديها المرابي، ومهما حفظ من آيات قرانية وأبيات الشعر، حتى قبل وجود القطن بين يدي العرب في الجزيرة العربية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية