أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

في "النكش" و"البحش" والتصنيف

في اليوم الأخير من العام الماضي، أقنعتني زوجتي، بوسائلها الحضارية الخاصة، بمرافقتها إلى أحد المراكز التجارية بهدف التبضع للاحتفال بالسنة الجديدة، لعل احتفالنا يغير من نصيبنا السيء، الذي خبرناه معا، في الحياة والحب والغربة والوطن، وكان في كل الحالات يشبه بعضه، إلا أن النساء، على عكس الرجال، لا يستسلمن بسهولة وخاصة عندما يتعلق الأمر بمتعة الإنفاق وشراء الثياب الجديدة.

ولكي لا أظلم زوجتي، على عادة الرجال في إطلاق الأحكام الشمولية والقطعية على زوجاتهم، فإن علي الاعتراف -بيناتنا- بأن زياراتها إلى المراكز التجارية لم تكن كلها بهدف التسوق، وإنما غالبا ما تكون الدوافع متداخلة، فمثلا إذا صدف والتقت بإحدى الصديقات، يتقدم عندها دافع النميمة على الدوافع الأخرى حتى أنها تنسى أحيانا وجودي، وهذا ما يحدث غالبا، ولكن أن تنسى رؤية أحدث الموديلات في مجال الملبوسات، فهذا ما لا يمكن تصديق بسهولة، أو تنسى موعدها مع "كوافيرتها" فذلك يفوق الخيال، ولكن يبدو، من ملاحظاتي السريعة ومعرفتي المتواضعة بنفسية النساء، أن النميمة بين امرأتين عن صديقات غائبات، تفوق كل المتع الأخرى، بما في ذلك المتعة الجنسية، ومتعة "البحش" و "النكش" في صندوق مليء بألبسة داخلية أو أي نوع من الألبسة الأخرى.

كان من متع زوجتي الأخرى ممارسة رياضة المشي في المراكز التجارية، ليس لهدف صحي كما تحب أن تشيع، وإنما كي لا تفوتها واجهة محل من المحلات التي تعرض ثيابا نسائية إلا وتنظر إليها. وكانت تقف مطولا أمام الواجهات التي تعرض تماثيل نساء بلاستيكية مثالية في مقاييس أجسادها، فتقول: هذا الفستان يليق بفلانة، وذلك يليق بعلتانة، وهذا القميص الرجالي يمكن أن يجعلك أنيقا، رغم أنك تشبه الكرة ولا يمكن أن يصلحك ويجعلك رجلا رشيقا، وتبقى هكذا توزع الثياب على معارفنا، إلى أن يثير إعجابها أحد الفساتين الذي ترتديه "المانيكان"، فتدخل إلى غرفة القياس مع الفستان ثم تخرج مكفهرة الوجه، وتبدأ في توبيخي لأن الفستان صغير عليها، متهمة إياي بالتآمر على شبابها منذ لحظة طلبي يدها للزواج، علما أنها هي من قتلت نفسها كي تتزوجني، ولكنني كنت دائما ألتزم الصمت، مع إشارات من رأسي توحي بالموافقة على التهم المنسوبة لي.
لم تكن هواية تصنيف البشر الذين نعرفهم، حسب الثياب التي تراها زوجتي في المركز التجاري بين شاب وعجوز ونحيف وسمين وأبيض وأسمر، مقتصرة عليها فقط، فهي سمة من سمات البشر الذين يلجؤون عادة إلى تصنيف كل شيء يصادفهم في الحياة، مما يسهل وضعهم في خانات مسبقة والتعامل معهم فيما بعد بناء على تلك التصانيف. ففي أثناء مرافقتي "الطوعية" لزوجتي ذلك النهار، لم يكن أمامنا من خيار للتنقل إلا باص النقل الداخلي، بعد أن قرر الميكانيكي الذي يصلح سيارتي أنها لم تعد صالحة للاستعمال ولا بد من رميها، فاستسلمت لقراره كما استسلمت لقرار زوجتي بالذهاب معها للتبضع ولو كان ذلك باستخدام الباص، الذي يضعنا استخدامه، بشكل آلي، في خانة الفقراء أو البخلاء.

عندها لاحظت قدرات زوجتي التصنيفية الهائلة للبشر، لم يتوقف لسانها خلال ٤٥ دقيقة، وهي مسافة الطريق، عن تصنيف البشر الذين يصعدون إلى الباص أو يغادرونه، قائلة: انظر إلى هذا الأسود الذي يعانق تلك الفتاة البيضاء الجميلة، يقطع عمرها على هالذوق تبعها، شو فيه هالأسود الجلد لحتى تحبه. انظر إلى هذا الهندي اللي ريحته طالعة وعمره شي سبعين سنة وعنده ولاد صغار مبين أكبر منك، شوف كيف متزوج وحدة صغيرة، كيف هي الهبلة وافقت تتزوجو. انظر لهداك الشاب اللي حاطط حلق بأذنه متل النسوان، يقطع عمرو شو مبهدل، مليح اللي ولادنا موهيك. ليك هديك الصبية كيف نازعا حالا وحاطه حلق بشفتها وحلقين بأذنها. ليك هديك الصبية الحلوة لولا حجابها كانت بتاخد العقل، مو معقول أنو هي اختارت الحجاب، أكيد حدا من أهلها جابرها. اطلع اطلع على هدول الزوجين السبنيول، عندهم أربع أولاد وبعدون شباب، اي شو صاير عليهم، ليس مستعجلين؟ وهكذا استمرت زوجتي في تصنيف الناس، وتذكرت مرة أخرى أنها ليست الوحيدة في ذلك، ففي عالم الفيسبوك والثورة السورية هناك ما يشبه ذلك.

في عالم شبكات التواصل الاجتماعي، يكفي أن يحمل اسمك صبغة دينية أو أن تكون من منطقة معينة حتى يتم تصنيفك والتعامل معك بناء على أحكام مسبقة. أذكر في هذا المجال، وأنا أحمل اسما مسيحيا، أن معارضتي التاريخية لنظام الأسد، ووقوفي منذ اللحظة الأولى مع الثورة، كلاما وممارسة ودعما ماديا وإعلاميا، كل ذلك لا يغفر لي نقدي لرجل يتاجر بالإسلام، أو لشعار سخيف رفعه بعض المسلمين للنيل من مسلمين آخرين، لأنه لا يحق لي ذلك، فأنا لست مسلما كي أنقد المسلمين حتى لو كانوا على خطأ. ويكفي أن يكون أحدهم من أصول علوية، حتى لو أمضى حياته في سجون آل الأسد وفي المنافي، كي لا يتورع أي رجل سني المذهب من التهجم على ذلك الرجل بحجة أنه طائفي، رغم أن ذلك السني قد يكون امضى حياته في خدمة نظام الأسد أو يكون ما زال عميلا لهم، هذا دون الكلام عن العلمانية والليبرالية والديمقراطية والدولة المدنية وغيرها.

أخيرا، لا بد من الإشارة إلى مهارة نظام الأسد في استخدامه للتصنيفات، التي تحمل شحنات كبيرة من الأحكام المسبقة مثل اتهام الثوار بالطائفية والتكفيرية الجهادية والوهابية والعرعورية وشق الوحدة الوطنية وأخيرا بالقاعدة من داعشية ونصرة وعمالة للصهيونية والرجعية السعودية والخليجية والأمريكان والغرب، وإلى آخر المعزوفة التي أصبح أطفال سوريا يعرفونها.

نحن بحاجة للتفكير قليلا بالتصنيفات وما تحمله من الأحكام المسبقة قبل إطلاقها على الآخرين، لأننا بحاجة للجميع في بناء سوريا الجديدة.
-----------------------------------------
ملاحظة: ما أنسبه إلى زوجتي الافتراضية هو مجرد كلام لا علاقة لزوجتي الحقيقية به، يرجى أخذ العلم.

(132)    هل أعجبتك المقالة (142)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي