أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

'محمد .. الرسالة والرسول' .. كتاب مستنير لمفكر مسيحي

"محمد الرسول والرسالة" كتاب لمفكر مسيحي، وعلم من أعلام فترة المد الثقافي في منتصف القرن العشرين، هو الدكتور نظمي لوقا الذي ربما لم يعرفه الشباب الآن، لكنه كان نموذجًا في رحابة فكره، وسعة إطلاعه، وغزارة علمه، لم يترك في عقله أيّ مساحة لتعصب ديني ضد أو مع.

وفي مقدمة الكتاب، يقول الدكتور نظمي لوقا: من يغلق عينيه دون النور يضير عينيه ولا يضير النور، ومن يغلق عقله دون الحق، يضير عقله وضميره، ولا يضير الحق. وما من آفة تهدر العقول البشرية كما يهدرها التعصب الذميم الذي يفرض على أذهان أصحابه وسرائرهم ما هو أسوأ من العمى لذي البصر، ومن الصمم لذي السمع، لأن الأعمى قد يبقى بعد فقد البصر إنسانًا، والأصم قد يبقى بعد فقد السمع إنسانًا.. أما من اختلت موازين عقله أو موازين وجدانه، حتى ما يميز الخبيث من الطيب ذلك ليس بإنسان، بالمعنى المقصود من كلمة إنسان.

ويضيف: إني لأسأل من يستكثر الإنصاف على رسول أتى بغير دينه، أما استكثر على نفسه أن يظلمها إذ يحملها على الجحود والجوع. ولست أنكر أن بواعث كثيرة في صباي مرتبطة بيني وبين هذا الرسول، وليس في نيتي أن أنكر هذا الحب أو أتنكر له، بل إني لأشرف به وأحمد له بوادره وعقباه.

ويقول المؤلف: إن موقف الناس من الوحي واحد، أيًّا كانت الرسالة الموحى بها والرسول المخبر عنها، لم يطلب أحد من رسول قبل محمد برهانًا عيانيًا على وحيه كي يطالب به محمد، فمن اعترف بوحي السماء الى رسول البشر، لزمته الحجة ألا ينكر نزول الوحي على محمد من حيث المبدأ، فوجه الامتناع هنا غير قائم بمبرر نزيه. ومن هنا وجب النظر النزيه في رسالة محمد، والبحث في مضمونها، لنلتمس فيها آيات الصدق التي يصدق الناس بمثلها من سبقه من المرسلين، وليس فيها ما يدعو للريب، ويبرر دمغها بالزيف أو الدجل أو البطلان.

ويذكر: دين بني إسرائيل، وإن كان دين توحيد وتنزيه، قد احتفى به شعب معين دون سائر الشعوب، فهو إذن ليس الدين الذي يهتدي به الناس كافة، ويجدون فيه شبع حاجتهم النظرية إلى العقيدة. والدين الذي يختص به شعب بعينه لا بد وأن تتمثله سريرة ذلك الشعب، فتكون سيرتهم في العمل كسريرتهم أصلًا، بحسب عقليتهم ونظرتهم وطبعهم، وكان بنو إسرائيل من قبل قوم أوثان وتعدد وتجسيم، وكانوا أشتاتًا في الأرض ينزلون هنا وينزلون هناك على شعوب غريبة، فينفون على أهل البلاد الأصلاء أن لهم وطنًا وبأسًا وسيادة وغلبة.

ويشير المؤلف إلى رسالة المسيحية، قائلًا: كان الطور الطبيعي للإنسانية أن تتطلب الهداية، في رسالة المسيحية التي لا تدعو إلى التوحيد والتنزيه فحسب، بل تجعل الله المعشوق الأسمى الذي يتجه إليه وجدان كل إنسان، فيتلاشى من قلبه حب كل معشوق سواه، ولا يبقى للحس وجاهه سلطان على قلب ذلك المحب، ولا للطقوس قيمة، لأن إذا حضر المحبوب لم يكن لتملي رسمه على الورق أو مناجاة طيفه معنى. وأعني بالمسيحية هنا ما جاء به المسيح من نصوص كلامه، لا ما ألحق بكلامه وسيرته من التأويل، فالمسيحية بهذا الاعتبار هي دين القلب الإنساني من حيث هو كذلك، بصرف النظر عن الفوارق الإقليمية والشعوبية.

ويضيف المؤلف: ولم يزل الناس بحاجة إذن إلى عقيدة جديدة، يجتمع إليها العقل والقلب جميعًا، وتصحح ما تردوا فيه من الأخطاء في تفهم ما سبق من عقائد ورسالات. إن الناس بحاجة بعد إلى دين يؤكد وجود الله، وأنه خالق الخلق، وأنه الكامل المنفرد بالكمال، وبيده الأمر، وهو على كل شيء قدير.. هذا الدين المرموق هو دين البشر.

وكان الإسلام هو الذي انبرى للنهوض برسالة هذا الدين. ويضيف: لا يدع القرآن شائبة من ريب مسألة وحدانية الله، فجاءت (سورة الإخلاص)، "قل هو الله أحد، الله الصمد" ولا في تنزيهه عن الشرك والتعدد: "لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد". وكان لا بد للدين أن يثبت قلوب الناس بالطمأنينه إلى عناية الله بالخلق، وإلى قدرته، وإلى سلطانه المطلق على الكون كله، فقرر القرآن في عزم وحسم أن الله "خالق كل شيء".

"وكان الله على كل شيء قدير". هو الخالق، وهو المدبر القادر، لم يخلق الكون ثم نفض من يده "وكان الله على كل شيء قديرًا". ويقول المؤلف: إن الحقيقة باقية والبشر زائلون، الرسالة إذن هي الباقية، وما هي بمتوقفة في شيء على بقاء هذا الرسول. "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم..".

إنها الحقيقة، ولكن كان لا بد من تقديرها لتوكيد بشرية هذا الرسول.. وليس أدل على لزوم هذا الاحتياط من افتنان الناس برسولهم وجنوحهم إلى الخروج به عن مستوى البشر الفانين، فإمام مثل عمر بن الخطاب، على رجاحة عقله، وقوة إيمانه، وهو من هوى الإسلام ورسوله، أبى أن يصدق أن الرسول نزل به طائف الموت. ولولا أن أبا قحافة تلا عليه وعلى الناس هذه الآية لقطع عمر أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله قد مات. "أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم".

ويرى المؤلف: أن أول مقياس يقاس به صدق صاحب رسالة هو مبلغ إيمانه حتى امتحنته الخطوب ولقي في سبيلها العنت والبلاء والاضطهاد. إن الرسالة التي تسير بصاحبها على مهاد من الود، ويكون هدفها الغم له أو لذويه لا تدل على إيمانه، بل على وصولية وطمع أو طموح. كان موفور الكرامة والمكانة بين قومه، بالنسب الرفيع، والحسب المنيع، فبدل من ذلك إهانة وتحقير وازدراء. كان وحيدًا أعزل لا أمل له في نصرة أحد على قومه، وهم أئمة الشرك، وحراس الكفر وأولياء عاصمته المستفيدون منه، كلا إن هذه نبوة وليست ملكًا، ولا وراثة في النبوة.

لم يساوم الرسول ولم يقبل المساومة لحظة واحدة في موضوع رسالته، على كثرة فنون المساومات، واشتداد المحن، وهناك موقف مشهور جداً من تلك المواقف هو موقفه من عمه أبي طالب حين قال له: إن قريشًا تشدد عليه النكير بسبب ما يبسطه عليه من حمايته. وإنه – على كبر سنه – مهدد باجتماعتهم على مقاطعته وعداوته، وقد قالوا له: إن والله لا نصير على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه أو تنازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين. وتقدم عمه إليه بقوله: فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. وأطرق محمد وما أحسب هلاكه كان أهول لديه من تخييب رجاء عمه كلامه، فحق لمن في مثل نخوته وبره أن يطرق ويتهم وهو يتعرض لتهمة العقوق. ثم كانت الكلمة التي لا تنطق إلا عن منتهى الشجاعة ورسوخ اليقين بما هو سبيله … يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر عن يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.

يذكر أن كتاب "محمد .. الرسالة والرسول" للدكتور نظمي لوقا صدرت طبعته الأولى بالقاهرة في عام 1959 عن مطبعة دار الكتب الحديثة. وصدر حديثا في طبعة جديدة بتبسيط محمد علي سلامة عن مطبوعات الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة ويقع في 135 صفحة من القطع المتوسط

خدمة وكالة الصحافة العربية
(165)    هل أعجبتك المقالة (233)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي