كيف أصبح القائد الخالد خالداً
كان صديقي الفنان «عبدو» يعتبر أن الجنون صنو الإبداع، ورفيقه، وقرينه.. ويستغرب كيف يمكن أن يكون المرء عاقلاً وفناناً في الوقت ذاته. ولم يكن يزعل حينما كان صديقنا الأستاذ «مازن» يقول له، بكل وضوح: أنت يا فنان عبدو إنسان مجنون!..
وذات مرة لمحه الأستاذ مازن يمشي وسط الزحام في سوق الصياغ بإدلب، فناداه قائلاً: يا أستاذ عبدو.. فلم يرد. قال له: يا أبو محمد.. لم يرد.. قال له: يا مجنون. فرد على الفور: نعم؟
وبعد أن سافر «عبدو» إلى دمشق، واستقر فيها، أصبحتُ ألتقيه، ومجموعةً من الأصدقاء الآخرين، مرة كل شهر، ذلك أنني اعتدتُ، منذ سنين بعيدة، أن أمضي يومين أو ثلاثة، كل شهر، في دمشق.
تعرفنا، في دمشق، على رجل يدعى «ر. م»، يكبرنا بعشر سنوات على الأقل، وقد كان يعمل في إحدى المؤسسات الصحفية الحكومية، ثم تقاعد.. وهو الآن يشارك في أعمال صحفية متفرقة في الصحف الخاصة، ويعمل أحياناً في تنفيذ طباعة الكتب، لقاء أجر أو عمولة.
ذات مرة دعانا إلى منزله.. فذهبنا.. وحينما دخلنا فوجئنا بوجود مكتبة كبيرة في الغرفة المجاورة لغرفة الجلوس.
سأله الفنان عبدو: ممكن نتفرج على المكتبة؟
قال: طبعاً.. وَلَوْ.
فدخل. ولكنه خرج بعد قليل وهو يحمل كتاباً من تأليف «ر. م» عنوانه «حافظ الأسد بطل التشرينين».
اقترب عبدو من «ر. م» وقال له دون تلكؤ:
أنت كيف تستحسن أن تضع اسمك على كتاب كهذا؟ يا رجل.. ألا تخجل من نفسك؟!
بعد أن خرجنا من منزل «ر. م» ذكَّرْتُ صديقي عبدو بلقب «مجنون» الذي كان يناديه به مازن، وقلت له بمنتهى الجد: أنت بالفعل مجنون!
***
كانت عملية تأليف كتاب عن حافظ الأسد مسألة في غاية السهولة، فقد رُوي عن الصحفي المخضرم «جان ألكسان» أنه كان لديه عدّة «قص وتلزيق» ورقية تشبه عدة الخياطين، فحيثما يعثر على مقالة تمتدح حافظ الأسد، وتكتشف فيه صفات عبقرية نادرة، كان يقصها، ويلصقها على ورق الكتاب الذي شرع بتأليفه عنه، بطريقة متسلسلة، وحينما صار عددُ اللصائق كافياً قعد يُجْري لها «التمديدات» و«الوصلات» فيقول مثلاً: كتب الصحفي الفرنسي فلان الفلاني عن شخصية الرئيس حافظ الأسد.. (تأتي بعدها المادة المترجمة اللصيقة، مع فهرستها، وتوثيقها)، ثم يكتب: وهذا يدل، إن دل، على عظمة السيد الرئيس حافظ الأسد، الذي أكد الكاتب فلان الفلاني عليها حينما كتب (لصيقة ثانية).. ويضيف: وأما وكالة «رويترز» فقد أوردت يوم كذا وكذا، ما قاله «علان» عن السيد الرئيس (لصيقة).. وهكذا، من هنا كلمة، ومن هناك جملة، وإذا نحن في اليد كتاب من 300 صفحة يُباع على المدارس والمؤسسات الحكومية على نحو إجباري، ويدر على «مؤلفه»- عفواً: «مُلَصِّقِه» مبالغ لا يستهان بها، وأهم ميزة فيه أنه غير صالح للقراءة.
***
حينما كنت أعمل بصفة مفتش في «الجهاز المركزي للرقابة المالية بإدلب» شاهدتُ، في مؤسسات القطاع العام، عشرات المؤلفات التافهة التي تشبه كتاب «جان ألكسان»، وكلها مصنوعة بطريقة التجميع من الصحف ووكالات الأنباء، والقص واللزق، وتماثيل مصنوعة من الجص، أو النحاس، بيعت لهذه المؤسسات بشكل إجباري، على أن يعود ريعها لناس متنفذين امتهنوا الاتجار بالحالة الديماغوجية السائدة.
لعل أكثر هذه الكتب طرافة وغرابة كتاب «اليوبيل الذهبي لثانوية جول جمال في اللاذقية» وهي المدرسة التي مر بها حافظ الأسد وهو في طريقه إلى الكلية الحربية.. من تجميع وفبركة المدعو «محمد شاكر عضيمة». الكتاب فخم الطباعة، يتم التركيز فيه على مسألة كان الإعلام السوري «السكندري» يستبسل، ويضع كل ثقله من أجل إثباتها، وهي أن هذا القائد العظيم كان عظيماً «من وقت ما الله خلقه»!!.. ففي الكتاب صور بالأبيض والأسود لطلاب غائمي الملامح والسحنات، تحتها عبارة: هذه الصورة لطلاب جول جمال ويظهر فيهم الطالب حافظ الأسد في وسط الصورة، وفوق رأسه سهم لكي يعرف القارىء أيَّهُم هو. (يعني الرجل دائماً في الوسط والقلب).. وصورة أخرى لطلاب مجتمعين توحي بأنه يقود فريق اتحاد الطلبة (فالرجل قائد من صغره)، وثالثة الطالب حافظ الأسد في المظاهرة (ضد الاستعمار طبعاً.. وبوجود السهم فوق رأسه للدلالة عليه)!
***
قال لي الفنان عبدو، بعدما قلت له «أنت مجنون»:
أنا مجنون، ما اختلفنا، ولكن هؤلاء الأشخاص النكرات عملوا ثروات من وراء هذه الكتب التافهة المضللة للناس.. وأنا لو لم أقل له ما قلت لجننت فعلاً!
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية