أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الجامع النوري الكبير في حمص.. منارة علمية ودينية عبر العصور

في قلب حمص السورية وسط الأسواق القديمة، يقع الجامع (النوري الكبير) الذي يُعتبر أحد أهم المعالم الإسلامية وأقدمها في هذه المدينة، كما يُعد إلى جانب الجامع الأموي بدمشق من أقدم أماكن العبادة في سوريا. ويتميز الجامع ببنائه الضخم، وأهميته الأثرية، وشكله الجميل ونمطه الإسلامي وهندسته الفريدة التي تجمع بين خصائص العمارة اليونانية الرومانية والإسلامية، وكالعادة في نمط بناء المدن الإسلامية احتل الجامع النوري قلب المدينة وقامت حوله الأسواق القديمة، وخاصة السوق النوري المحاذي لمدخل الجامع الجنوبي، وسوق الحسبة والقيسارية وبعض الحمامات الأثرية كالحمام العثماني والحمام الصغير.



واختلفت الآراء والتكهنات حول أصل المبنى الذي يقوم عليه الجامع، إذ يعتقد بعض المستشرقين أن موضعه كان نفس موضع هيكل الشمس أو معبد (إيلا غابال) الذي كانت تتولى تنظيم عبادته أسرة شمسغرام العربية ومع انتشار المسيحية في حمص حوَّله القيصر الروماني (ثيودسيوس) إلى كنيسة، ثم حوَّل المسلمون نصفه إبان الفتح العربي الإسلامي إلى جامع، وبقي النصف الآخر كنيسة للمسيحيين، ولكن الخليفة المتوكل العباسي أمر بتأديب النصارى العرب الذين ثاروا مع مواطنيهم المسلمين العرب على القائد العباسي، فصلب رؤساءهم، وأدخل القسم الثاني من البيعة إلى الجامع، كما يقول الطبري في كتابه تاريخ الرسل والملوك تحقيق أبو الفضل ابراهيم، القاهرة ط2/ 1962.

وعندما تولى (نور الدين زنكي) ولاية حمص اهتم بهذه المدينة اهتماماً يوازي ما لهذه المدينة من مكانة استراتيجية وعسكرية ومعمارية، ومن بين العمائر التي اهتم بها جامع حمص الكبير الذي سُمي منذ ذلك الوقت الجامع النوري الكبير نسبة إليه، وعندما ضرب الزلزال الهائل بلاد الشام عام (552 هـ-1157م) عمد نور الدين زنكي إلى ترميم وإصلاح ما خرَّبه الزلزال وتشير الكتابات الإسلامية المنقوشة على حجارة وُجدت في هذا الجامع إلى أن تجديد بنائه يعود إلى نور الدين زنكي.



* حجر هشام
ومنذ عهد نور الدين الزنكي حتى اليوم ظلت كتلة بناء الجامع النوري على حالها، باستثناء بعض التعديلات التي طرأت على المبنى من حين لآخر، مثل تجديد بناء المئذنة عام (615 هـ) وتجديد بوابة المسجد في العهد العثماني، ومن ثم إعادة تشييِّدها مرة أخرى في العصر الحديث و"يعود بناء الجامع النوري الكبير إلى بدايات زمن التحرير العربي لمدينة حمص من البيزنطيين، ويشابه نمط بقايا النقوش المرسومة على حنَّية محرابه ما هو موجود في المسجد الأموي بدمشق، أحد سكان حمص شاهد حجراً منقوشاً عليه (عمَّر هذا المسجد هشام بن عبد الملك)، وقد رُدمت عند تجديد بناء مدخل الجامع في منتصف القرن الماضي" (كتاب حمص درة بلاد الشام –تأليف د. منذر الحايك– محمدفيصل شيخاني – دار الذاكرة حمص ط أولى 2000.

ومما لاشك فيه أن ترميمات وزيادات كانت تحدث في الجامع باستمرار، فالمنبر نقش عليه تاريخ (510هـ)، ثم جاء الزلزال الذي حدث زمن نور الدين الشهيد، وأصاب بسببه الجامعَ أذى كبير فقام بإعادة بناء الجامع وتوسعته، وقد ورد في يوميات (محمد المكي الخانقاه – 12 هـ) أن المياه كانت تصل الجامع من الساقية المجاهدية التي كانت تقع في سوق الناعورة –حسب التسمية الحديثة له. 



* المدرسة النورية 
للجامع حاليا ثلاثة أبواب أحدها من الخشب، وله شكل هندسي جميل، وهو يوصل إلى الحرم من الناحية الغربية، وهناك باب من ذات الجهة ويصل إلى ساحة الجامع (الصحن) وهو من الحجارة البيضاء والسوداء على النمط الأبلق، وفي الجهة الجنوبية هناك مدخل طويل-تعلوه أقواس- يصل إلى الحرم مباشرة، وبالإضافة إلى هذه الأبواب هناك باب فرعي من الناحية الشمالية يُفضي إلى سوق صغير تعرض دكاكينها مصاحف مختلفة الأحجام ومسابح وأشرطة دينية وقطعاً شرقية وغيرها. 

ويبدو الجامع برمَّته مبنياً من الحجر والكلس والتراب بشكل أقواس متقاطعة تستند إلى دعائم، ويحيط بالجامع من الجهة الغربية البناء الإسمنتي الحديث، الذي يشكل واجهة الجامع، وهو من الحجر الأبيض، وقد بُني على النمط العربي الإسلامي.

ويميَّز الزائر للجامع النوري الكبير ثلاثة أقسام رئيسية:
أولاً: الحرم ويقع في الجهة الجنوبية من المبنى، ويشكل مستطيلاً بأبعاد 100×17 متراً. 
ثانياً: صحن الجامع، وهو يشكل مستطيلاً متطاولاً، ويبلغ ضعفي مساحة الحرم.
ثالثا: المصلى الخارجي الذي يقع في أقصى الشمال من الصحن، ويتميز بارتفاعه، والجزء الشمالي منه مغطى برواقات ذات عقود متصالبة، ويفصل المصلى عن صحن الجامع (درابزين) من الحديد المشغول بأشكال هندسية بديعة.

ويتضمن الجامع أبنية ملحقة به من الغرب، تضم أماكن للإفتاء وجمعية إصلاح ذات البين، وفي الجهة الشرقية تقع المكتبة الضخمة الغنية بذخائر الكتب والمخطوطات، مع قاعة المحاضرات التي أُنشئت عام 1990، ويُعتقد أن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه عمّ البطل صلاح الدين الأيوبي كان قد أنشأ في مكانها ما عُرف بـ (المدرسة النورية) في عام 627 هـ.



* دور علمي 
كان الجامع النوري الكبير عبر العصور، ولا يزال منارة علمية ودينية تهوي إليها الأفئدة من مختلف البلدان والأمصار. وفي مطلع القرن الماضي أخذ هذا الجامع دوراً يشابه الدور الذي أخذه الأزهر الشريف والنجف الأشرف والزيتونة في تونس والقرويين في فاس في تمثيل الوجه الناصع لمثالية الإسلام، والتعبير بحق عن أهدافه العلمية، إلى جانب الأهداف الدينية والروحية، في قبسات نورانية مشعة من الروح والعقيدة والإيمان، ففي صحن الجامع الواسع، ومصلاه الخارجي الفسيح، وغرفه المتعددة هنا وهناك، كانت تجتمع أفواج من الطلبة على مر السنين للدراسة والاسترواح في الجامع. 

يستوي في ذلك طلاب التجهيز أو الشرعية أو طلاب المدارس الأخرى، وكانت صلاة الجمعة في هذا الجامع ولا تزال ملتقى للمئات من أهالي المدينة والزوار، وخاصة في شهر رمضان المبارك يتآلفون في ظل الإسلام، وينعمون تحت أفيائه الروحانية الوارفة.

خالد عواد الأحمد - زمان الوصل
(387)    هل أعجبتك المقالة (428)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي