حديث الثورة "تنبطحون باسمنا"
كان صديقي "مالك" مثالاً للثوري الوطني الديمقراطي الذي يمكن أن يُحتذى.
في البداية، حينما اشتعلت الثورة في المحافظات الأخرى، وتأخرت مدينة إدلب في الخروج، انقهر "مالك"، وشعر بالغبن، والعجز، والجبن، وشرع يدور على أصدقائه، ويدعوهم لمشاركته في مظاهرة احتجاج، ولو من باب التجريب، ويتوسل إليهم قائلاً:
لو نطلع عشرة شباب بس.. خلينا ننضرب، خليهم يعتقلونا. شو عاملين؟! هل المطالبة بالحرية ممنوعة؟!..
إلى آخره.
ولمَّا لَمْ يلقَ استجابة قرر أن يرتكب أكثر أنواع المغامرات خطورة. أحضر لوحاً من الورق الأبيض المقوى، كتب عليه كلمتين هما: (أنا أحب سوريا).. ووقف أمام جامع "أبي ذر" أثناء خروج المصلين من صلاة الجمعة، ورفعها إلى الأعلى.. وعينك وقتها، يا صديقي، لا ترى إلا النور. فقد انفلت عليه قطيعٌ من الشبيحة وأوسعوه ضرباً و"دعوسة"، وبشق النفس استطاع أن يهرب من تحت (سنابكهم) وهو مدمى.
اتسعت رقعة المظاهرات، بعد عدة أسابيع من هذه الحادثة، وتكشفت مدينة إدلب عن وجود شبان كثيرين من أمثال "مالك"، يحبون البلد، ولا يهابون الموت.. وفي يوم من الأيام.. بعد حوالي ثلاثة أشهر من هذه الواقعة، بلغ عدد المتظاهرين ستين ألفاً دفعة واحدة!
ذكرتُ لقراء "زمان الوصل" في مقالة سابقة أن الثورة السورية تجلت، منذ بداياتها، بتخلخل العلاقات الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة قبل الثامن عشر من آذار 2011، وبرأيي أننا نستطيع أن نعتبر "مالك" أنموذجاً لهذه الخلخلة، على جميع الصعد..
بشار الأسد الذي ورث (النظرَ إلى الشعب السوري باحتقار) عن والده، لم يكن يخاطب الشعب إلا ضمن المهرجانات الخطابية التي تمجد مناسبة لها علاقة باحتلال والده لسوريا، أو بوراثته للعرش الرئاسي الجمهوري، ولكنه، مع ظهور الاحتجاجات، وضخامتها، وقوتها، وتصميمها على إسقاطه، أحس بالعطب، وتحول، فجأة، إلى مُحِبّ للشعب! وصار يطلب من القيادات الأمنية والحزبية في المحافظات، أن ترسل له وفوداً من (الشعب)، ليلتقي بهم، ويصغي إلى حديث معاناتهم مع الفساد والفاسدين، ويتسلم قوائم مطاليبهم، ويقدم لهم وعوده بالإصلاح، والرفاهية، وجنة عدن.
رؤساء الفروع الأمنية، من جهتهم، يعرفون أنهم كانوا الأداة الأكثر فاعلية ونجاعة في صنع الفساد النازل من عند بشار الأسد حتى أسفل حارس واقف عند أبواب فروعهم،.. لذلك كانوا حريصين على ألا يذهب أحدٌ من المعارضين الحقيقيين أو الثوار لمقابلة الأسد، بل أرسلوا إليه وفداً من الشخصيات التي خدمت النظام فترات طويلة، ثم ارتأى النظام تفريغها لحب الوطن، والتَنَعُّم بالأموال التي جنوها خلال النضال ضد الاستعمار والصهيونية وأذناب الاستعمار.
بعد لقاء الوفد الإدلبي ببشار الأسد، سارعت القيادةُ المشتركة لفرع المخابرات العسكرية وفرع حزب البعث العربي الاشتراكي إلى عقد ندوة في المركز الثقافي العربي، يلتقي فيها أعضاء الوفد مع الجماهير الكادحة، ليشرحوا لهم مجريات الزيارة، ويبشروهم بأن رئيسهم الذي نفى في سنة 2000 أن تكون لديه عصا سحرية يقلب بها جحيم حكم والده إلى جنة، قد امتلك هذا العصا الآن، وأنه سيحوِّلُ سورية إلى جنة على الأرض، وما عليكم الآن، وإكراماً لهذه الجنة، أن (تضبوا) أولادكم (البشوت) المغرر بهم، الذين يطلعون في المظاهرات، وتقنعوهم أن يجلسوا في بيوتهم لتأتيهم الإصلاحات عن طريق مكتب (خدمة الزباين الإصلاحية)، ملفوفة بورق السيلوفان، وممسكة، ومعطرة.
بعد انتهاء أعضاء الوفد من كل هذه الشروحات. قال أحدهم:
من كان لديه سؤال فليتفضل.
"مالك" رفع يده طالباً الإذن بالكلام. فلما أعطيه قال ما معناه:
شيء غريب هذا الذي سمعناه منكم يا (أفندية). قال كنتم تقابلون الرئيس بشار الأسد بوصفكم ممثلين عنا. كيف صار هذا؟ ومن سمح لكم بذلك؟ نعم، قبل الثورة، كنتم تذهبون باسمنا إلى الشام، تكذبون باسمنا، وتسمسرون باسمنا، وتسرقون باسمنا، وتنبطحون تحت أقدام آل الأسد الشاليش والمخلوف باسمنا، وحتى الصفوف الدنيا من المسؤولين التافهين الذين يدورون في فلك بيت الأسد والشعب المخابراتية كنتم تتزلفون لهم باسمنا. أنت يا سيد (أبو فلان الفلاني)، مين أنت؟ حطوك أول شي أمين فرع حزب، ولما خلصت صلاحيتك طالعوك على مجلس الشعب، لأن مجلس الشعب دار عجزة كما تعلم. وصرت، بعدها، في القيادة القطرية ممثلاً عن إدلب! مَن مِن أهل إدلب شافك، أو اجتمع بك، أو قدمت له خدمة؟! عينت أخاك مديراً للشركة (ص)، وابن عمك رئيساً للبلدية، وزوج بنتك رئيساً المنظمة الشعبية (س)..
وأنت يا شيخ علان العلاني، أنت لم تذهب باسم أهل إدلب فقط، بل ذهبت باسم المسلمين في محافظة ادلب.. وأنت تعرف كيف كان المسلمون يُسحقون ويتمنون الموت في معتقلات أمن الدولة الأسدية.
وأنت يا زيد.. وأنت يا عبيد..
وبينما كان الحاضرون يفتحون أفواههم دهشة مما كان يقوله مالك، كان عناصر الأمن يتسربون من القاعة لتطويقه، ولكنه، يومها، تمكن من الهرب.. لم يقع في أيديهم حتى يوم سقوط مدينة جسر الشغور..
والقصة طويلة.
من كُتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية