أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

جبهة النصرة لأهل الشام: من التأسيس إلى الانقسام

ترجع جذور الحركة السلفية في سورية إلى نهاية القرن التاسع عشر في ما اصطلح على تسميته بـ "السلفية الإصلاحية"، والتي كانت شبيهة إلى حد كبير بالسلفية الإصلاحية التي نشأت في مصر على يد الشيخ محمد عبدو؛ بمعنى أنها كانت حركة تنويريّة وتثقيفية نشأت لمواجهة حالة الاستبداد والتخلف الموروثة من العهد العثماني ولعل من أبرز رموزها آنذاك الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، والشيخ جمال الدين القاسمي، والشيخ محمد رشيد رضا. وقد تفرَّعت عن هذا التيار عدة جمعيات، كانت قد أدت دورًا مهمًا في الحياة السياسية، ومن أبرزها: "الجمعية الغراء" التي تأسست عام 1924، وجمعية التمدن الإسلاميّة التي أسسها عام 1930 مظهر العظمة وبهجت البيطار (أحد تلامذة الشيخ جمال الدين القاسمي)[1]. وبخلاف التيار السابق، نشأت الحركة السلفية التقليدية (المحافظة) متأثرة بالمرجعيات التاريخية للتيار السلفي التقليدي، مثل ابن تيمية وابن قيِّم الجوزية، ولاحقًا بالشيخ محمد بن عبد الوهاب. وتدين السلفية التقليدية بالفضل في إحيائها وتفعيل نشاطها في سورية إلى الشيخ محمد ناصر الدين الألباني (1914-1999)[2]، والشيخ عبد القادر الأرناؤوط، وتلميذه الشيخ محمد عيد العباسي الذين نشطوا ضمن المعاهد الشرعية وركزوا على نشر الدعوة وأفكار التيار السلفي من دون الانغماس في العمل السياسي. أما بذور السلفية الجهادية في سوريّة، فإنها خرجت من رحم جماعة الإخوان المسلمين التي نشأت في سورية في منتصف الثلاثينيات وأعلن عنها رسميًا عام 1945، وانتخب مصطفى السباعي مراقبًا عامًا لها؛ فبعد عصيان حماة عام 1964 أسست مجموعة من أعضاء الجماعة بقيادة مروان حديد خطًا جديدًا يختلف عن توجهات مؤسسيها الذين كانوا يفضلون طريق العمل السلمي للوصول إلى السلطة، ومن أبرزهم مصطفى السباعي والشيخ عصام العطار. لقد تأثر مروان حديد بأفكار سيد قطب أثناء وجوده للدراسة في مصر، وكان يطمح في نقلها إلى سورية[3].

كان مروان حديد مقتنعًا بأنّ "الجهاد" هو الطريق الوحيد للتخلص من "بلاء كحزب البعث". وفي سبيل ذلك، حاول إقناع التنظيم العام للإخوان المسلمين بالإعداد للمواجهة مع السلطة، وتشكيل ذراع عسكريّ للجماعة. ولمّا لم ينجح في ذلك، توجه مع تلاميذه للإعداد للقتال، وذلك من خلال العمل المسلح مع حركة فتح الفلسطينية في قواعد الشيوخ في غور الأردن (1968-1970)، وهناك تمكّن من إعداد النخبة الأولى لتنظيمه الجهادي[4]، الذي سماه "تنظيم الطليعة المقاتلة".

كان تنظيم الطليعة المقاتلة أول تجربة جهادية في سورية تتخذ من العنف (الكفاح المسلح) سبيلًا وحيدًا للتغيير. وقد شهد عقدا السبعينيات والثمانينيات مواجهات مسلحة بين هذا التنظيم (انضم إليه التنظيم العام للإخوان المسلمين عام 1980)، وبين السلطة؛ انتهت بخروج معظم قيادات التيار الإسلامي بعد موقعة (مجزرة) حماة عام 1982.

يمكن القول بأنّ تجربة الطليعة المقاتلة وفّرت تربة خصبة لولادة الحركة الجهادية في سورية؛ فالسلفية الجهادية المعاصرة تعتبر الشيخ مروان حديد "الشخصية الثانية" بعد سيد قطب التي ساهمت في نشأة التيار الجهادي. كما أنّ الجهاديين السوريين الذين "هاجروا" إلى ساحات الجهاد المختلفة نشأ معظمهم في كنف الطليعة المقاتلة. ولعل أحد أبرز وجوه تجربة مروان حديد هو أبو مصعب السوريّ؛ والذي سيصبح منظِّر الحركات الجهادية في أفغانستان والجزائر والعراق وسورية[5].

بعد أحداث حماة 1982 وخروجه منتصرًا في المواجهة، نجح النظام السوري خلال عقد الثمانينيات والتسعينيات في تقليص حضور الإسلام الحركي، والتفكير الجهادي إلى أدنى حدوده. ويمكن ردّ ذلك إلى عاملين رئيسين: الأول، الإجراءات القمعية والقسرية ضد منتسبي الإسلام الحركي، ولا سيما أنصار جماعة الإخوان المسلمين. والثاني، تحفيز النظام شخصيات ومدارس إسلاميّة لإرساء تيار إسلامي "لاعنفي"، يبتعد عن العمل السياسي، ويركز على القضايا الدعوية والتربوية والعمل الاجتماعي. ومن أبرز هؤلاء الشيخ جودت سعيد ومدرسته "سلفيّة اللاعنف"، والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي الذي كان مدافعًا عنيدًا عن الفقه الصوفي التقليدي في وجه الآراء السلفية، وجماعة القبيسيات والتي ستنشط بشكل كبير بعد تولي بشار الأسد منصب الرئاسة.

لكنّ أحداثًا مفصلية حصلت في عقد التسعينيات ساهمت من جديد في إحياء التفكير الجهادي لدى بعض الشباب السوري (مثل تجربة "الأفغان العرب" وحركة المقاومة الإسلامية "حماس" وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، وحزب الله في لبنان، وحرب الشيشان). وعلى وقع هذه الأحداث، تشكلت مجموعات سلفية صغيرة مهتمة بالجهاد ومتأثرة بهذه التجارب من دون أن يكون هناك أي رابط تنظيمي في ما بينها[6].

مع ذلك، لم تعرف سورية نشاطًا جهاديًا خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي؛ فالمجموعات الجهادية الصغيرة التي تشكلت متأثرة بالفكر الجهادي العالمي لم تجد الحاضنة الشعبية والقبول المجتمعي، فوجد معظم منتسبيها طريقهم إلى خارج سورية، والتحقوا بجبهات "الجهاد" المفتوحة في بقاع متعددة من العالم (مثل البوسنة والشيشان)، وبخاصة بعد تأسيس "الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين" في شباط/ فبراير 1998 [7].

سعى النظام السوري منذ وصوله إلى الحكم للتضييق على الحركات الإسلامية واستئصال المجموعات الجهادية الناشئة، لكنّ هذا الواقع تغيَّر بشكل كامل مع ظهور بوادر الغزو الأميركي للعراق 2003. فأثناء التحضيرات الأميركية لغزو العراق كانت الأجواء في سورية تشحن على الصعد كافة باتجاه إعداد الجهاديين للقتال في العراق واستقبالهم وتحت عناوين مختلفة من بينها استباحة الغرب "الكافر" للأراضي المسلمة؛ وهو خطاب غير مألوف لأحد الأنظمة العلمانية التي تعتبر متطرفة في رؤيتها وتعاملها مع الموضوع الديني. فقد دعا مفتي سورية الراحل الشيخ أحمد كفتارو في 26 آذار/ مارس 2003، على سبيل المثال، المسلمين عامة إلى الجهاد وإلى "استخدام كل الوسائل الممكنة في هزيمة العدوان، بما في ذلك العمليات الاستشهادية، ضد الغزاة المحاربين الأميركيين والبريطانيين الصهاينة"[8]. وأعاد الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي هذه الدعوة في خطبة الجمعة بتاريخ 13 حزيران/ يونيو 2003، وحثّ المسلمين الشباب على التوجه إلى "جهاد الفريضة" التي لم "تتجلَّ أسباب فريضتها في عصر من العصور كما تجلّت في هذا العصر على أرض العراق الإسلامية"[9].

استطاعت المجموعات الجهادية الصغيرة في الفترة 2003-2005 إنشاء قواعد إسناد وإمداد في عدة مناطق من سورية، مختارة تلك التي تتوافر فيها حاضنة اجتماعيّة للفكر الجهاديّ. وقد تولت هذه المجموعات، والتي نشطت بشكل شبه علني تحت مسمى "لجان نصرة العراق" مهمة تجنيد المقاتلين السوريين، وتسهيل مرور "المجاميع القتالية" القادمة من خارج سوريّة إلى العراق، إضافة إلى جمع التبرعات من خلال جمعيات خيرية، وأحيانًا في مساجد الأرياف[10].

يمكن القول إنّ ظروف حرب العراق عام 2003، جعلت من سورية ممرًا آمنًا للجهاديين إلى العراق. وتشير الكثير من الدلائل إلى أنّ النظام السوري اعتبر تدفق الجهاديين مصلحة حقيقية تتمثل في محاربة القوات الأميركية في محاربة الجهاديين وتنظيم القاعدة في العراق. يضاف إلى ذلك أنّ الولايات المتحدة الراغبة آنذاك في تحقيق الاستقرار الأمني في العراق كانت مضطرة إلى فتح قنوات اتصال وتعاون مع النظام السوريّ لتحقيق ذلك.

استثمر النظام السوريّ ورقة القاعدة والجهاديين بشكل جيد في العراق في الفترة 2005-2008 للخروج من عزلته الدولية المفروضة عليه؛ فالتضييق على حركة الجهاديين وضبط الحدود والتعاون الاستخباراتي كان الثمن المقابل لتخفيف الضغوط الأميركية عليه[11]. وقد أدى ذلك إلى افتراق المصالح بين تنظيم القاعدة والنظام السوريّ، فانتقل الأخير بنظر الجهاديين وتنظيم القاعدة من عدو مسكوت عنه، إلى عدو تتعين مواجهته. ضمن هذا السياق، شهدت العاصمة السوريّة دمشق في 27 أيلول/ سبتمبر 2008 تفجيرًا انتحاريًّا استهدف مجمعًا للفروع الأمنية في منطقة القزاز[12]. وقد اتهمت السلطات السورية مجموعة جهادية تابعة لتنظيم القاعدة بالوقوف وراء هذه التفجيرات[13]. 

لقد تركت التجربة العراقيّة تداعياتها المباشرة على التيار الجهادي في سورية؛ إذ ساهمت في خلق جيل جديد من الجهاديين السوريين. كما برزت خلالها أسماء عناصر قياديّة سورية من أبرزها خالد سليمان درويش الملقب بـ "أبو الغادية السوري"[14]. أما على صعيد المقاتلين (المجندين) في العراق، فقد جاء السوريون في المرتبة الثانية من حيث العدد، وبنسبة بلغت 13% من إجمالي عدد الجهاديين هناك، وذلك بحسب إحصاءات نشرت في المنتديات الجهادية عام 2007. وقد عاد معظم هؤلاء إلى سوريّة بعد تراجع نشاط التيار الجهادي في العراق، وقد أسهموا بصورة ملحوظة في الثورة السورية[15].


ورقة بحثية للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات - الباحث: حمزة مصطفى - دراسات سياسية
(196)    هل أعجبتك المقالة (187)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي