وأنا في طريقي الى اسطنبول لحضور موتمر "كلنا سوريون"كنت أسترجع في ذاكرتي ما بقي فيها من معلومات عن تركيا، تذكرت الدولة التي استعمرتنا ٤٠٠ عام، وكيف أنها تركتنا على الحضيض. تذكرت "السفر برلك" والجوع الذي رافق سنواته، تذكرت أيضا محمد الفاتح واحتلاله للقسطنطينية وفتحها عام ١٤٥٣، ولم يغب عن ذهني أبدا السلطان سليم الأول الذي دخل سوريا واحتلها بعد انتصاره في معركة مرج دابق عام ١٥١٦. تذكرت الشعارات القومية "الشوفينية" التي كان حزب البعث يروج لها، والتي تحمّل الأتراك مسؤولية تخفلنا وتفتت الأمة العربية، والروح العدائية التي كانت تلك الأفكار تبثها فينا. وما إن وصلت الطائرة المغربية إلى مطار الدار البيضاء حتى كانت الصورة السوداء عن تركيا قد أصبحت جاهزة في عقلي كي أصدر أحكامي المسبقة على الدولة التركية التي يحكمها الإسلاميون منذ أكثر من عشر سنوات.
كنت قد سجلت وأنا في الطائرة المغربية بعض الملاحظات على ورقة كي لا أنساها منها: عطل في الشاشة الإلكترونية التي أمامي وأمام جاري، وطلبي ثلاث مرات من المضيف تقديم تفسير، لم أحصل عليه، حول سبب العطل، كما لاحظت أوراقا مرمية في ممر الطائرة دون أن يكلف أحدهم نفسه مشقة جمعها، بالإضافة إلى ملاحظة أن جاري الآخر كان قد طلب ثلاث مرات ماء للشرب، ولما لم يحصل عليه من المضيف ذهب للبحث عنه بنفسه. كتبت تلك الملاحظات لمقارنتها فيما بعد بالوضع في تركيا، والذي افترضت مسبقا أن نتيجة المقارنة ستكون لصالح البلد العربي.
ما إن دخلت مطار اسطنبول، حتى شعرت بالغيرة، ليس على مطار الدار البيضاء، الذي هو في النهاية مطار من مطارات العالم الثالث، وإنما على مطار مونتريال، الذي يعد من المطارات الحديثة في العالم، لقد تفوق عليه مطار اسطنبول في كل شيء، في سعته ونظافته وسهولة عبور حواجزه الامنية، فلم تمض عشر دقائق إلا وكنت في السوق الحرة، صدم نظري المحلات التي تبيع الخمر وكل ما يخطر على البال، خرجت لأجد سيارات التاكسي، ولم أكن أعرف أن محطة مترو المدينة موجودة في الطابق السفلي. وأنا في طريقي إلى الفندق أدهشتني شبكة الطرق والجسور في المدينة، وانتشار النظافة في كل مكان، فبدت وكأنها سلوك عادي للأتراك في كل المناطق التي زرتها فيما بعد، في الشوارع الحديثة كما في الشوارع القديمة، في البنايات العملاقة كما في الآثار العظيمة، كل شيء وكل مكان نظيف في اسطنبول.
وأنا أبدي إعجابي بالمدينة المدهشة، قال أحد السوريين: أنت في المناطق الحديثة من المدينة، أما المناطق الإسلامية فهي تختلف. لم أعلق على كلامه، وتشاء المصادفة أن ألتقي أحد الأصدقاء القدامى، ويقول لي إنه يسكن في حي شعبي إسلامي فأطلب منه اصطحابي إليه، وأكتشف أنني وجدت روحي فيه، فهو أشبه بأحياء مدننا السورية القديمة، يضاف إليه نظافة المكان، وتقع عيني على مدرسة مختلطة في الحي فأسال صاحبي عنها فيقول: كل المدراس في اسطنبول مختلطة إلا المدارس التي أسسها حديثا السوريون لأبنائهم، فهي تفصل بين الذكور والإناث، انتقلنا في مشوارنا في الحي الإسلامي إلى الشارع الخلفي لأجد في وجهي كنسية أرثوذكسية، وفي الشارع الثالث شاهدت بائع خمور، لم أتكلم إنما أشرت إلى عبد الرحمن، فقال نعم برأسه.
قال لي أحد الأصدقاء إن تركيا، بفضل سياسات أردوغان وحزبه الإسلامي، قد أصبحت من الدول الصاعدة في العالم اقتصاديا، وهي من الدول النادرة التي ليست مديونة بقرش واحد، وكل ما يشاع عن أسلمة المجتمع والدولة هو إشاعات الهدف منها النيل من حكومة حزب العدالة ونجاحاته الاقتصادية العظيمة.
إن أردوغان يحاول أن يعمل ما قام به محمد الفاتح بعد فتحه القسطنطينية، فقد كان من أبرز أعماله الإدارية دمجه للإدارات البيزنطية القديمة في جسم الدولة العثمانية المتوسعة آنذاك، وأردوغان يفعل الشيء نفسه ولكن مع الإرث العلماني الأتاتوركي، إنه يسعى بجدية كبيرة وعقل منفتح إلى مصالحة الماضي التركي مع الحداثة، ولهذا فإن الشعب انتخبه مرتين متتاليتين.
سعادتي برؤية اسطنبول لم تكتمل، فقد شاهدت الجوع السوري والتشرد السوري، فعشرات السوريات قد امتهن "الشحادة" في نقطة واحدة من المدينة، وذلك أمام مدخل البازار المصري المشهور بتوابله.
فهل تخفي روائح التوابل التركية روائح الفضيحة العالمية بحق سوريا والسوريين؟!
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية