الإنتاج التلفزيوني الخاص و"السخرة"..
استمرت الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون بالإنتاج الدرامي عن طريق "مديرية الإنتاج" رغم منافسة القطاع الخاص القوية لها، بل إن القطاع الخاص (كَشَفَ) حال هذا الإنتاج الحكومي وعراها.. فصار الواحدُ منا إذا رأى مسلسلاً مهلهلاً يتضح فيه بؤس أماكن التصوير وضعف الأداء الدرامي يقول باستخفاف:
هذه دراما قطاع عام!
في مصر كان الحال على العكس تماماً.. فـ "قطاع الإنتاج التلفزيوني الحكومي" كان يُنتج أفضل الأعمال التلفزيونية، والقطاع الخاص ينتج الأعمال النمطية البليدة!!.. وقد عُزي ذلك يومها إلى عدة أسباب، منها حُسن الإدارة، ومنها أن قطاع الإنتاج الحكومي المصري كان يرصد لأعماله أموالاً كثيرة، ثم يعهد إلى منتج من القطاع الخاص ليكون (منتجاً منفذاً)، والمنتج المنفذ الخاص يهمه تحقيق الربح، ولذلك فهو يمنع الهدر والبعزقة والإهمال، ويتحاشى كافة الآفات البيروقراطية التي يعاني منها القطاع العام.
وأما القطاع الخاص السوري فربما يعود نجاحه إلى أنه كان ينتج أعمالاً باذخة إنتاجياً، دون أن يدفع النفقات الإنتاجية الباذخة كلها..
وإليكم توضيح ذلك..
في شركات القطاع الخاص يوجد بند واضح وصريح له علاقة بتسهيل أعمال مدير الإنتاج. يعني، بالعربي، يستطيع مدير الإنتاج أن يُرسل، مع أحد مساعديه، هديةً ثمينة (أو مبلغاً مالياً محترماً) لمدير إحدى مؤسسات القطاع العام، ليقوم هذا الأخير بتسهيل العملية الإنتاجية لهذه الشركة على نحو مجاني.
فإذا كانت المؤسسة الحكومية لديها غرف صالحة للتصوير بعد دوام الموظفين، ويعطيها المدير المرتشي للشركة، فإنه بذلك يوفر عليهم استئجار غرف للتصوير بمبالغ كبيرة! وإذا كان لديها موظفون كثيرون، فإن مديرها يستطيع أن يعطي بعضهم للشركة المنتجة على شكل (إعارة) ليقوموا بأدوار الكومبارس، فتوفر الشركة بذلك مبالغ كبيرة كان المفروض أن تدفعها لاستئجار الكومبارس.. وكما تلاحظون فإن هذه العملية تشبه أعمال (السخرة) التي كانت تجري على أيام العثمانيين، حيث يؤخذ الرجال من بيوتهم عنوة، ومن دون مقابل، ليشاركوا في رصف الطرقات وتعزيل المجاري ونقل البضائع من المخازن إلى ظهور البغال.
سأزيدكم من هذا القصيد بيتاً..
كانت بعض الشركات المتنفذة، أي التي يمتلكها أحد المسؤولين الكبار أو ابنه أو أخوه، مثل شركات الشام الدولية لصاحبها باسم عبد الحليم خدام، حينما تقوم بتصوير عمل مهم فيه مجاميع بشرية كبيرة من إخراج نجدة اسماعيل أنزور، أو محمد عزيزية، فإن مدير الإنتاج يذهب إلى إحدى القطع العسكرية العاطلة عن العمل... (والقطع العسكرية السورية المخصصة لقتل الشعب كلها كانت خاملة وعاطلة عن العمل لأن الشعب السوري كان ساكتاً عن الظلم في تلك الآونة)، ويطلب من قائد الوحدة العسكرية إعارته عدداً من العسكريين لتصويرهم كـ (كومبارس).. ويدفع له الرشوة المخصصة لهذا العمل.. وحينما يكون في هذه القطعة العسكرية مسؤولون صغار مسؤولون عن تنفيذ هذه العملية فإن كل واحد منهم تصله حصته في مغلف مختوم، وحينما يفتحه يجد فيه، عدا عن النقود (حبة مسك)، والغاية من المسك أن تبقى نفس الإنسان مفتوحة على العمل والإبداع!
الشيء الطريف في المسألة أن السبب المعلن للموافقة على إشراك الجنود في التصوير أبعد ما يكون عن موضوع الرشوة، أو الرشاوى التي تدفع لأصحاب القرار.. فالكتاب الذي تقدمه الشركة المنتجة إلى قيادة القطعة العسكرية يتضمن العبارة التالية:
السيد الـ.. قائد الوحدة العسكرية الـ.. المحترم
إننا نقوم بتصوير مسلسل تلفزيوني يتحدث عن نضالات شعبنا العربي السوري البطل على المستعمرين الفرنسيين، هذه النضالات والتضحيات هي التي أدت إلى جلاء آخر جندي فرنسي عن أرض سوريا العربية..
(وفجأة يتذكر منشىءُ الكتاب مسألةً مهمة، فيضيف:)
إن هذا العمل يصب في نهر الفن السوري العظيم الذي يكبر ويزدهر في ظل القيادة الحكيمة للسيد الرئيس حافظ الأسد.. إلخ
ملاحظة: هذا الكتاب، مع أنه ينتمي- كما ترون- إلى جنس (العلاك المصدي) إلا أنه ضروري جداً للحصول على الموافقات المطلوبة لإتمام عملية (السخرة)!
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية