حديث الثورة (مشكلة التَجْويل)
أزعمُ أنني أستطيع الكتابة عن التحولات الاجتماعية الكبيرة التي عصفت بالمجتمع السوري بفعل الثورة، باعتبار أنني شاركتُ فيها منذ بداياتها الأولى، مشاركة فعليةً بوصفي شخصاً عادياً (نَفَراً) في بعض المراحل، ثم (قيادياً)، ثم هارباً متشرداً في الداخل، ثم متشرداً في تركيا، في مراحل أخرى.. وقد عاشرتُ، وعايشتُ، خلالها، مختلفَ أنواع السوريين وأنماطهم، وعرفتُ، وأعرفُ ما جرى ويجري على الأرض السورية، وأفهمُه، وأستوعبُه، وأستطيع الخوض فيه..
أحد الأصدقاء على الفيسبوك كتب ما يلي: إذا أنت خرجت لتنجز عملاً شخصياً صغيراً، قد لا تستطيع أن تنجزَهُ في الزمان المحدد، والكيفية التي رسمتها في ذهنك، فما بالك بالثورة؟!.. وكان الأجدر به أن يضيف: فما بالك بالثورة السورية؟!
هذا التساؤل الذي طرحه الصديق الفيسبوكي لا يمتلك- برأيي- الكثيرَ من الدقة والإصابة، وهو ينطوي على تبسيط منطقي.. فالثورة حينما تنفجرُ وتقومُ يجب أن تكون ذات أهداف واضحة ومحددة، ومن ثم لا يجدر بها أن تتوه عن أهدافها إلى حد ألا يعرف المرءُ أين ستذهب بالبلاد.. بمعنى آخر، لا يمكن أن تقوم ثورة وتنجح من دون أن يكون لها (بوصلة)..
كان خروجنا في الثورة استجابةً إنسانية عظيمة للهتاف الذي أطلقه الثوار الأوائل (الله، سوريا، حرية، وبس).. وهذا يعني أنها ترتكز على:
أولاً- حالة وطنية تمثلها كلمة (سوريا).
ثانياً- وحالة تحررية ليبرالية تمثلها كلمة (حرية)..
ثالثاً- وأما (الله) فهو القيمة العظمى التي تخصُّنا جميعاً، وكل من يدعي أنه (الله) له وحده، أو أنه وكيله على الأرض، فهو كاذب، مزور..
في الأيام الأولى للثورة، بدأ المجتمع السوري يتخلخل، وينفرز، ويتخلى عن مفاهيم سادت فيه طويلاً، وبتبني مفاهيم وسلوكات جديدة.. وكانت الشعارات الأساسية للثورة قوية، ونظيفة، ومزلزلة.. فقد أعلنا أننا نريد دولة مدنية، برلمانية، دستورية، دولة المواطنة المتساوية التي تضمن للسوريين تداولاً سلمياً للسلطة.. أتبعناها بشعارات لا تقل عنها أهمية، من قبيل: الشعب السوري واحد.. لا للطائفية، لا للتقسيم..
إن الحقيقة البديهية التي غابت عن أذهان عدد كبير من السوريين، في البدايات، هي أن النظام السوري يرتكز عضوياً، وبنيوياً، واستراتيجياً، على (الفساد)، وبالتالي لا يجوز الاعتقاد بإمكانية إجراء (إصلاحات) تنقل البلاد- سلمياً- من استبداد مزمن وضارب جذوره في الأرض إلى دولة مدنية تعددية تحفظ للجميع- على وجه العموم- حقوقَهم، وللفئتين اللتين عانتا دهراً من الاضطهاد الأسدي الصريح المُضَاعَف، وهما: الإسلاميون والأكراد، على وجه الخصوص.
بغية مواجهة النظام المستعصي على الإصلاح الذي لا يمتلك حلاً آخر غير (الحل الأمني) بدأت مرحلة تسلُّح الثورة لمواجهة القتل اليومي الذي مورس ضد الشعب السوري بدم بارد.
وبمجرد ما حمل الثوار السلاح بدأت أحلام اليقظة تراود الإسلاميين (دولة إسلامية- دولة خلافة- دولة إسلامية كبرى) وبدأت أحلام الانفصال تراود (بعض) الفصائل الكردية..
ولنعد إلى بوصلة الثورة..
إن أكبر خطأ ارتكبه الثوار- بظني- هو ما اصْطُلِحَ عليه في العرف الشعبي بـ (التَجْويل)! والكلمة تعني، حرفياً، اعتقالَ شخص ما من الشعب، ووضعه في (جوال)، يعني كيس من الخيش، ثم نقله (وكأنه قط، أو ضبع، أو طائر حمام)، من قرية إلى قرية، ومن مكان إلى آخر، ثم وضعه، وهو معصوب العينين، بين أيدي شبان لا يفقهون من أمور الحياة إلا القليل، ليحققوا معه، ثم ليقرروا ما إذا كان بريئاً فيطلقون سراحه، أو (شبيحاً) فيرسلونه إلى الجَبَل، أي: إلى خبر كان!
الشعب الذي كان متعاطفاً مع الثورة، في البداية، إلى حدود الانجراف، بدا يرتاب من الثورة، إذ استدعت عملية (التجويل) إلى ذاكرته عملية (الاعتقال) التي مارسها النظام على أبنائه منذ أربعين عاماً، وما يليه من تحقيق وإهانات وسباب على المحارم ثم إلقاء الرجل في غياهب معتقلات أمن الدولة، لمدة تُعْرَفُ بدايتُها، ولا يوجد أحد من البشر يعرف نهايتها..
الثوار لا يحق لهم، بالطبع، أن يقارنوا أنفسهم بالنظام.. لأنهم- نظرياً- ثاروا لتخليصنا من العبودية ومن سلوك النظام الفاشستي..
ومع ذلك، يمكن لبعضهم أن يتذرعوا بأن الشخص الذي (جَوَّلوه) كان جاسوساً، أو مُخبراً، أو عواينياً، وأنه كان يعمل على إيذاء الناس وإحباط ثورتهم.. ولكن، بماذا يمكن أن يتذرع الثوار للشعب حينما تطلبُ إحدى المجموعات الثورية من أهل المعتقل دفع مبلغ مليون أو بضعة ملايين ليرة لقاء إطلاق سراحه؟.. وبماذا يفسرون المعاملة السيئة التي يتعرض لها الشخص (المُجَوَّل) وأقلها وضعه في الباكاج الخلفي للسيارة؟
ههنا سيكون النفور من الثورة أكبر بكثير.. وإن كان البعض قد حاولوا تبرير هذا الفعل الخسيس بقولهم إن مبلغ (الغرامة) سيعود للثورة، فبماذا يفسرون لنا وجود مجموعات ثورية تخلت عن الثورة وتفرغت لأعمال الخطف والسلب والسيطرة على الموارد الطبيعية للدولة السورية؟
(ملاحظة: إن انتقادي لبعض سلوكات الثوار لا تصب في مصلحة النظام، فالنظام السوري مشطوب من قاموسنا بشكل نهائي)..
من كُتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية