أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

عن الغليون والثقافة

أخيرا تحقق حلمي ووصلت إلى الغرب وأنا في سن النضج. فقد أمضيت مراهقتي وشبابي قارئا عن الغرب وتطوره ورجلاته ونسائه والحرية التي ينعم بها مواطنو كل بلد من بلدانه.

كانت أجب الأفلام إلى قلبي تلك التي أشاهد فيها رعاة البقر الأمريكيين (الكاوبوي) يمتطون صهوات جيادهم، ومسدساتهم "يلعلع" رصاصها في كل الاتجاهات، وخاصة باتجاه المتوحشين الهنود، ما ذكرني بحملات الإبادة التي يقوم بها الجيش الأسدي ضد السوريين بحجة القضاء على الإرهابيين المتوحشين الذين نغصوا عيش بقية السوريين، ومنع انتشارهم السريع في الأراضي السورية، أخوات وبنات البعض من العودة الساعة الثالثة صباحا إلى منازلهم، فأطلق الأسد " الكاوبوي" السوري للقضاء على جراثيم الحرية التي بدأت تعشش في عقول المتوحشين السوريين.

في أفلام الغرب الأمريكي (الكاوبوي) تعرفت على الرجل المثالي القوي الذي تعشقه النساء عندما يضع بين شفتيه الشهوانيتين سيكارة "مارلبورو" الأمريكية الصنع، وهو يعتلي ظهر حصانه، فكنت أسمع في ظلام الصالة التي تعرض الفيلم، تأوهات الصبايا مع كل حركة من قدمي الكاوبوي "خابطا" بهما خاصرتي حصانه.
ومن باب الأمانة، يجب القول إن تلك الأفلام عرفتني أن الغربي الأبيض هو من علم الهندي الأحمر سلخ جلدة الرأس بعد قتل العدو، وعبرها عرفت أن الغليون هو اختراع هندي، قبل أن يصبح ماركة اوروبية مسجلة.
أخيرا تحقق حلمي ووصلت إلى الغرب، بفضل الاضطهاد الذي عانيته من حكومة بلدي، حكومة حافظ الأسد، فما إن وطأت قدماي أرض "حقوق الإنسان" حتى قررت اختبار صحة هذا الشعار الذي "صرعونا" فيه على مدى عشرات السنين، فتقدمت بطلب لجوء وقُبلت فورا، ولكن، من حسن حظي، كان هذا قبل الثورة وتهجير ملايين السوريين، فقد قررت كندا طي صفحة حقوق الإنسان عندما يتعلق الأمر بالسوريين، وهكذا اكتشفت أيضا أن منطق حقوق الكاوبوي هو الذي ينتصر.

عودة إلى انبهاري بالغرب وثقافته، فقد وجدت نفسي قريبا جدا من تحقيق حلم اقتناء غليون، الذي يدل، بالإضافة إلى إطلاق اللحية (من حسن الحظ لم يكن الأمريكان قد خلقوا القاعدة بعد)، على أنني مثقف أسمر البشرة، ولكن من العالم الأول، لذلك ما إن أصبحت رئيس تحرير مجلة "أرابيسك"، التي كنت أقرأها أنا وزوجتي ومن يكتب فيها فقط، ومعلما للعربية في مونتريال حتى سارعت إلى المحلات التي تبيع كل ما هو مستعمل، للبحث عن مجموعة غلايين مستعملة، لعدم تمكني من شراء الجيد والجديد، فسعره الغالي قد يفسد على متعة التدخين، ووجدت طلبي.

ولما كنت مدخنا شرها، يستهلك في سوريا "باكيتين" حمرا طويلة، ليس بسبب القهر السياسي، لا سمح الله، فقد استخدمت الغليون وكأنه سيكارة، فلم أكن أتركه يخرج من بين أسناني، خوفا من أن تراني إحدى طالباتي، التي تتابع دروس العربية، دون غليون ولحية، فتشك بثقافتي وعمقها، ويتراجع انبهارها (الايكزوتيكي) بي، وهي التي ترى في كل عربي "هارون الرشيد"، أو على الأقل، أحد السلاطين العثمانيين تحيط به النساء والغلايين والغلمان.

مرت الأيام سريعا، متباهيا بغليوني ولحيتي، دون الانتباه إلى أن أسناني الأمامية التي تقبض على مبسم الغليون بدأت تتحرك، وخاصة العلوية منها، فتجاهلت هذا الإنذار، ولم أكلف نفسي عناء زيارة طبيب الأسنان، معتقدا أن لا سن يسقط من فم الإنسان إلا في موعده المكتوب، فلماذا مراجعة الطبيب وخسارة المال القليل أصلا في جيوبي، وكان مما لا بد منه، فقد ضغطت أحد الأيام بقوة على "بزّ" الغليون كي لا يسقط من فمي، واذ به أمامي على الأرض مع السن العلوي، لحقه بعد قليل السن الثاني.

عند زيارتي للطبيب، قال لي: كلفة وضع جسر يحمل هذين السنين ألف دولار. حاولت إقناعه أنني أشبه "سارتر" مع غليونه، وأنني مثقف استحق سعرا خاصا، فقال: المثقف الحقيقي يا سيدي هو من يعرف كيف يعتني بأسنانه ويجعلها تعيش أطول وقت في فمه.

(185)    هل أعجبتك المقالة (173)

ع ن

2014-01-16

أزمة وجود يرسمها دخان الغليون سرعان ما تختفي ولكن تترك وراءها تلوث الروءيه..


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي