هل المسلم يعشق الموت؟

قالت لي الكندية الجميلة: ما لكم أنتم المسلمون، وفي ثقافتها أن كل عربي هو مسلم وكل مسلم هو عربي، تعشقون الموت وتسيرون إليه زرافات ووحدانا؟
قلت لها: إنك تنطلقين من أحكام مسبقة تم زرعها في عقولكم عبر سنين، حتى غدت مسلمات غير قابلة للنقاش.
قالت بانفعال مدافعة عن نفسها: أنا لا أنطلق من أحكام مسبقة، وأعرف سلفا أن الإعلام الغربي منحاز إلى مصالحه، ومصالحه ليست في نقل حقيقة ما يجري على الأرض العربية، لذلك فان اتهامك السريع لي هو حكم مسبق بحد ذاته. لن أستعرض أمامك قصص الموت المجاني للمسلمين، في أفغانستان وباكستان والهند وإيران والعراق والجزائر وليبيا ومصر واليمن والسعودية ومصر، ففيها ما هو من صنع الغرب وفيها ما هو صناعة إسلامية بحتة، هذا الموت الذي قدم، في المحصلة، الصورة التي يريدها الغرب عن المسلم، لتحولها وسائل إعلامه الى صورة نمطية، بحيث يتم فيما بعد استخدام أي جزئية صغيرة من الصورة كلون البشرة أو شكل الأنف أو اللحية أو الكرش أو القنبلة أو الحزام الناسف أو التخلف العلمي أو إنفاق النقود على النساء الشقراوات أو استخدام السيف أو النقاب أو الحجاب، إذ يكفي الغربي مرور أي جزئية من تلك الجزئيات أمام عينيه ليستحضر الصورة النمطية بكاملها عن المسلم والموت المرافق له، فماذا فعلتم كي تغيروا أنتم المسلمون في الغرب من هذه الصورة، وماذا يفعل ثواركم في البلدان الإسلامية لتغيير هذه الصورة؟
تابعت الكندية الجميلة كلامها قائلة: أنا أعرف أن محاولات تشويه صورة المسلم في الإعلام الغربي مستمرة، ومن الأشياء التي تريد قولها لنا نحن المواطنون، أن الديمقراطية لا تليق بهذا المسلم، ليكون هذا الكلام مبررا لدعم الأنظمة الشمولية في بلدانكم، ولكن دعني أقل لك أن ليس كل هذا الكلام كذبا يقال بحق المسلم، وسأقدم لك مثالا حقيقيا عشته هنا قبل أقل من أسبوعين.
لابد أنك تابعت الجدل العلني، الرسمي والشعبي، حول "شرعة القيم الكيبكية"، والذي ما زال مستمرا بين أطراف متعددة في كندا، ولقد ساهمت فيه بدوري ووقفت ضدها، ليس دفاعا عن المسلمين أو بقية الناس الذين لا يريدون التخلي عن حمل أو ارتداء رموزهم الدينية في دوائر الدولة، وإنما دفاعا عن الشرعة الكندية لحقوق الإنسان، والتي يفتخر بها كل كندي، ليس كوثيقة فقط، وإنما كممارسة حقوقية ومدنية وحكومية، فجاءت شرعة القيم الكيبكية، التي اقترحتها حكومة الأقلية في كيبيك كي تكسرها وتفرغها من مضمونها الإنساني عبر إجبار الناس "بالقانون" على التخلي عن معتقداتهم الدينية أو النيل منها، وهي حق من حقوق الإنسان، يجب احترامه والدفاع عنه في كل مكان في العالم، وقد رأيت في تلك "الشرعة" أنا والملايين من الكنديين تعديا على حقوقنا في "احترام حقوق الآخرين الدينية" وخاصة حق المسلمات بوضع الحجاب في أماكن العمل.
ولما كان الطريق الأفضل لمقاومة ديكتاتورية أقلية حكومية-سياسية هو التظاهر والتجمع والتنسيق، والعمل الجماعي في أوساط المجتمع المدني، لتشكيل رأي عام ضاغط، ضد سلوك هذه الحكومة أو تلك، فقد قررت الاتصال بأكبر المتضررين من هذه "الشرعة" وهم المسلمون في كيبيك، لذلك قمت بمساعدة أصدقاء مسلمين على تجميع عناوين الجمعيات الإسلامية، والمساجد، وأسماء وأرقام هواتف الناس المؤثرين في الأوساط الإسلامية الكيبكية، وتفرغت لمدة أسبوعين كاملين للاتصال بهؤلاء الناس، متكلمة معهم بالفرنسية أو الإنكليزية، حول أهمية العمل الجماعي فيما بينهم وبين مؤسسات المجتمع المدني في مونتريال وخارجها، وعدم الاكتفاء بالمظاهرة الوحيدة التي اشتركوا فيها للتعبير عن رفضهم لشرعة القيم الكيبيكية، شارحة في كل مرة أجري اتصالا مع أحدهم أو إحداهن أن العمل، كي يكون فاعلا، يجب متابعته ومأسسته وتحشيد الناس حوله، فهذا ما يخيف السياسيين ويجعلهم يتقربون من قياداته، ببساطة واختصار إنه "الصوت الانتخابي" فهو السيف الحاد الذي يخيف الحكومات الديمقراطية في الغرب.
تنهدت صديقتي الكندية الجميلة، فسقطت مع تنهيدتها تلك، كل الممانعات التي تعلمتُها في عشق نساء الغرب، في الكتب والسينما وفي أحلامي المقموعة عن الحلال والحرام، وكرهتها عندما اكتشفتُ صعوبة تحويلها إلى امرأة مطيعة، وتابعت هي "محاضرتها"، وكأنها اكتشفت فيّ الرجل الشرقي المنبهر بشقرة شعرها وزرقة عينيها وسقوط أسوار المقاومة والممانعة التي كنت أفتخر بها، واستيقظتُ على نبرة صوتها القوية قائلة: هل تعرف ماذا كانت نتيجة عمل أسبوعين من الحوارات واللقاءات مع زعماء وزعيمات الجالية الإسلامية في مونتريال؟
قلت لها: وكيف لي أن أعلم وأنا لم أكن معك ولست بمنجّم!
قالت: لقد تناسى أكثرهم لماذا كنت ألتقيهم، رغم أنني لم أتحرك لمقابلة أحدهم أو إحداهن إلا مع خطة العمل المقترحة مطبوعة على ورق، ولكن يبدو لي أنهم استصعبوا العمل الجماعي الميداني الذي سيترك آثارا إيجابية بعيدة المدى على الجميع، واختاروا بدلا منه العمل الأسهل الذي يجعلهم يزاودون فيه على بعضهم بالتقوى والتقرب من الله.. لقد حاول أكثرهم دعوتي لاعتناق الاسلام، وخاصة الرجال منهم، متناسين أن اعتناق الإسلام أو غيره من الأديان لن يسقط شرعة "القيم الكيبيكية" بل يعطي الحجة اللازمة للمشرع الكندي كي يقرها.
وهكذا ترى يا صديقي: كيف أن المسلم في الشرق، كما في الغرب، يعشق الموت ويسير نحوه برأسه وقدميه، وأنني لا أنطلق في ذلك من أحكام مسبقة.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية