هيبة حافظ الأسد

روى لي صديقي الطبيب "نون عين" تفاصيل قصة جرت معه حينما ذهب لزيارة ابن حميه في مشفى الأمراض العقلية بقرية "دويرينة" الواقعة إلى الشرق من حلب، قبل حوالي 15 سنة.
ولأن "نون عين" طبيب، فقد سمحت له إدارة المشفى بلقاء المرضى والتحدث إليهم بحرية، إضافة إلى ابن حميه.
من بين المجانين الموجودين في أحد المهاجع انتبه "نون عين" إلى واحد غريب جدا، اسمه "محمد. ك" من ريف حلب الشمالي. كان رجلا أربعينياً، ذا ثقافة عالية، ومقدرة استثنائية على الحوار، والأخذ والرد، والاستنتاج، بتركيز عال.. حتى ظنه فيلسوفا، أو مفكرا كبيرا، واستغرب أن لا يكون مدرسا في الجامعة، أو مديرا لإحدى المؤسسات الأكاديمية، والأغرب أن يكون- بدلا من ذلك-مصنفاً في خانة (المجانين)!
ذهب "نون عين" من توه إلى مدير المشفى، وهو طبيب مختص بهذا النوع من الأمراض، وسأله- بلهجة لا تخلو من اللوم والاحتجاج- عن حال ذلك المريض، وسبب وضعه في الدويرينة.
لم يجب المدير بأي كلام، بل أمر بإحضاره. وحينما مثل أمامهما شرع يعامله باحترام شديد، لا كما يُعامل المجانين الآخرون. قال له، في كثير من التركيز: استاذ محمد، قل لي، باختصار لو سمحت، إذا خرجت من هنا، ماذا ستعمل؟
قال: سأقتل حافظ الأسد، وأصبح رئيساً لسوريا!
قال له: شكراً. وأمر بإعادته إلى القاووش!
حينما انتهى "نون عين" من رواية هذه الواقعة سكت قليلا، ثم قال: يومها حلت علينا، أنا والمدير، هيبة حافظ الأسد، فلم نستطع أن نقول شيئا. وأنا تذرعتُ بأن لدي موعدا يجيب علي أن أنطلق حالا كي لا أتأخر عليه. كان كلام "محمد. ك"، في تلك الأيام، يوحي بأنه ضرب من ضروب الجنون. ولكن لو فكرنا فيه الآن لبدا لنا عاديا ومنطقيا. يعني، بجد، لماذا لا يكون محمد، أو غيره، رئيسا لسوريا بدلاً من حافظ الاسد؟.. ولماذا يحكمنا ذلك الخبيث- كما يقولون- للأبد؟
قلت له: أنا سأحكي لك قصة أغرب.
من زمان، قبل سنة 2000، الحزب الشيوعي السوري، وهو أقدم حزب علماني سوري، إذ يعود تأسيسه إلى العشرينيات من القرن الماضي، أراد أن يعقد مؤتمره السنوي في صالة أحد الفنادق الكبرى. دخل العناصر المكلفون بإعداد الصالة وتجهيزها لعقد المؤتمر إلى الصالة، فوجدوا صورة حافظ الأسد قابعة في وسط الجدار الرئيسي.
اقترب أحدهم منها، يريد أن يرفعها، فنبهه زميلُه إلى خطورة هذا الإجراء، قائلا: انتبه. والله بيروحوك!
دخل الأمر في أخذ ورد، وأتى سكرتير الحزب، وبعض أعضاء المكتب السياسة، والأمانة العامة، وحضر بعض الضيوف من الأحزاب الكبرى، ودخل الجميع في نقاش حامٍ حول ضرورة رفع الصورة عن الجدار ووضع شعار المهرجان وصورة "الرفيق لينين" وبعض الديكورات التي تدل على هذه المناسبة العظيمة، وترمز لنضالات الحزب الشيوعي.
وكبرت القصة أكثر، وحضر الأمين العام، واتصلوا بالرفيق الأمين القطري المساعد، وبشعبة المخابرات العامة.
ولم يجرؤ أحد على أخذ مسؤولية رفع الصورة على عاتقه، وحينما "انتخى" أحد الأعضاء القدامى في الحزب، وأعلن عن استعداده لخلع الصورة والدوس عليها إذا لزم الأمر، منعوه من ذلك، وأبعدوه عن المكان، لئلا يتعرض للخطر، وهم، أي القياديون، يجب أن يحافظوا على سلامة أعضاء حزبهم.
في المحصلة العامة للأمر، أقيم المؤتمر، وبقيت صورة ذلك الديكتاتور القبيح معلقة في مكانها.. في صدر الصالة تماماً!
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية