مع بداية العام الدراسي ٥٨، وهو عام الوحدة السورية-المصرية، كان والدي العريس قد نال حصته من شهر العسل، فقد مضى على زواجه أكثر من ستة أشهر، فالتحقنا به جميعا إلى حماه، عدنا لنكون سبعة في غرفة واحدة. كانت خالتي شابة لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها، في الوقت الذي كان فيه والدي قد لامس الأربعين، حاولت المسكينة أن تكون زوجة لأبي وأختا لنا، لا أعرف مدى نجاحها في الأمرين، فأخوتي الكبار كانوا ينظرون إليها بعدم حب، فقد أخذت مكان أمهم، أما بالنسبة لي فقد كانت، وحتى اليوم، أما لا مثيل لها، فلم يحدث أبدا أن نقصني شيء، كانت كالساحرة، فقد اخلع ثيابي الوحيدة الوسخة مساء لأجدها صباحا نظيفة مغسولة، معلقة في مكانها، وعندما كبرت وأصبحت منتجا لم أكن آخذ مصروفي أو أعطي المال من وإلى والدي بل إلى خالتي.
في ذاكرتي، إن والدي لم يرتفع صوته ولا مرة على والدتي، التي كانت أعمر منه بسنة، ولكنه بدا صارخا مستبدا عندما كانت خالتي المسكينة ترتكب خطأ صغيرا، كنا نحن الأولاد نشمت بها ونفرح بصراخ والدنا عليها، ونكاد نخرج في مظاهرة تأييد لهذا الشرطي كلما اعتدى عليها لفظيا أو جسديا. لم أعرف أبدا لماذا كانت مشاعرنا تزداد عدوانية ضد شابة مسكينة تتنازل عن حقوقها وتحاول جاهدة خدمتنا.
في عام ٥٩ كان التمدد المصري قد بدا ملحوظا في سوريا، في الإدارة المدنية وفي الجيش والتعليم وحتى في الشرطة، ففي أحد الأيام عاد والدي من عمله منفعلا أكثر من اللزوم، وما إن شكت خالتي من ألم في بطنها، وكانت حاملا في شهرها السابع، حتى بدأ أبي في الصراخ وشتم خالتي ومن أقنعه بالزواج مرة جديدة، هذا الزواج الذي جعله يصمت أمام إهانة الضابط المصري الذي لا يفقه شيئا في الحباة السورية وفي العادات السورية، كاد والدي يتمزق غيظا وقهرا دون أن نعرف الأسباب الحقيقية لذلك، لم تتأخر استجابة خالتي لهذا الانفعال المبالغ فيه من قبل والدي، فجلست أرضا وبدأت تتلوى من الألم، ولم يتحرك أحدنا إلى أن رأينا بقعة من الدماء على فستانها فسارعت أختى الكبيرة إلى مساعدتها على الانتقال للجلوس في مكان آخر، وطلبت من والدي الإسراع في إحضار سيارة لنقل خالتي إلى المستشفى.
بعد عدة أيام علمت أن أخا (سبعاويا) جديدا قد التحق بعائلتنا، والغريب أن والدي الذي كان قبل أيام يشتم المصريين، عبر شتمه لضابط الشرطة المصري الذي أدى بدوره إلى الولادة المبكرة لأخي وعمره سبعة أشهر، قد أطلق اسم "عبد الحكيم" على ابنه الجديد، تيمنا بعبد الحكيم عامر، الذي كان في رفقة جمال عبد الناصر في زيارة مدينة حماه حينها، ولا زلت أذكر، وأنا الآن في الرابع والستين من العمر، كيف خرجت حماه عن بكرة أبيها لاستقبال عبد الناصر والتصفيق له، وكيف تم رفع سيارته على الأكتاف والسير بها، ولكن بقي اللغز الأكبر، بالنسبة لي، هو تحول انفعالات والدي من الكره إلى الحب إلى الكره من جديد للمصريين، وكيف أصبح زوار بيتنا من أصدقاء والدي والأقرباء يكثرون في الحديث عن المصريين عند كل مشكلة تواجههم في حياتهم اليومية ابتداء من رغيف الخبز ووصولا إلى كل شيء آخر، ويحملونهم مسؤولية ذلك، رغم أن بعض ما كانوا يتحدثون عنه كان موجودا منذ سنوات، ولا علاقة للمصريين به.
بدأت تنتشر في سوريا قصص اختفاء بعض المعارضيين لعبد الناصر والوحدة السورية المصرية، وبدا أن هناك دائما من السوريين من كان جاهزا للدفاع عن هذا الطرف أو ذاك، مبررا كل حركة وموقف لأحد الطرفين، وجرت الإشارة أكثر من مرة إلى وزير الداخلية الحموي عبد الحميد السراج، الذي قيل إنه هو من ساهم في تأسيس الاستبداد الناصري في سوريا.
كنت قد بدأت أحب حماه، فقد أصبحت قادرا، وأنا في الصف الرابع، على كسب بعض القروش من عملي الصيفي في بيع البوظة، كانت رغبتي في توفير المال لشراء هدية صغيرة إلى أخي الصغير عبد الحكيم قد دفعتني لحمل براد البوظة الصغير والتجول في كل الأماكن التي يتواجد بها الحمويون، وخاصة في أيام الحر الشديد، أما نصيبي من هذا العمل فكان دائما أكل ما استطيع أكله من البوظة، بالإضافة إلى قروش الهدية التي كنت أجمعها بحرص. ما إن انتهى عام ٥٩ حتى صدر قرار جديد بنقل والدي مرة جديدة إلى دمشق، لنشهد هناك قيام الانفصال، الذي سيمهد الطريق لوصول العسكر البعثي إلى الحكم عام ٦٣، مؤسسا أسوأ أنواع الاستبداد الذي عرفته العصور الحديثة، حيث اختلطت الايدولويجيا القومية بالطبقية بالطائفية منتجة حافظ الأسد الذي حملت المدن السورية سيارته على الأكتاف، كما تم حمل سيارة عبد الناصر، وذبحت تحت قديمه مئات الخراف معلنة ولادة إله جديد سيحكم السوريين بالنار والحديد، إلى أن يقوم بوجه نظامه أطفال درعا، هاتفين: "الشعب يريد إسقاط النظام".
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية