"كلاب" حافظ الأسد

من بواكير إبداعات صديقي الأديب الراحل "تاج الدين الموسى" قصة تحمل عنوان "الكلاب"، وهي قصة رمزية شفيفة، تشير، بطريقة فنية مدهشة، إلى أن رجال المخابرات السوريين ليسوا أكثر من "كلاب"!..
وقد اسْتُدْعِيَ تاج، على إثر نشر القصة في مجموعته القصصية الأولى، أكثر من مرة إلى الفروع الأمنية، ليُسْأَلَ عمن يقصده بـ"الكلاب"؟.. فكان يقول، ويصر على القول، بـأنه يعني "الكلاب" العادية، وبالأخص الجعارية ذات الأذنين المقطوشتين التي تعوي ليلاً في الشوارع!!.. فلا يقتنعون، ولكنهم، في المحصلة، يُخلون سبيله، معتبرين أن إهانته، باستدعائه، وجرجرته، ووضعه في موقف السين والجيم، قد تحققت، وأما هو فكان يَعْتبر- مُحقاً- أن الإهانة التي وجهها إليهم، حينما شبههم بالكلاب، تشبه الوشم الذي ينزل مع الإنسان إلى القبر، ولا يمكن إزالته إبان الحياة!
بقيت علاقة المرحوم تاج مع المخابرات سيئة منذ أن سجنوه بقرار من قاضي محكمة أمن الدولة، في الثمانينيات، بتهمة الانتماء إلى المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري- رياض الترك، واستمرت سيئة حتى وفاته بسرطان الرئة يوم 22/2/2012..
تاج الدين الموسى هو رجل من الطراز الآتي: رجل يدرك الأخطار الحقيقية لوجود المخابرات وتكاثرها في المجتمع السوري على نحو سرطاني، وسعيها المُطَّرِد المتسارع لإحكام قبضتها على رقبة المجتمع السوري.
تاج عانى من المخابرات الكثير، ولكنه لم يكن يخافهم (كما كنا نحن نخافهم)! وحينما كان يكتب قصة، أو مقالة، أو فقرة، تتضمن همزاً ولمزاً وسخرية منهم، فإنه لا يكتفي بنشرها في صحيفة أو كتاب، بل كان يسعى جاهداً لجعلهم يقرؤونها.. ولأن رجال المخابرات السورية لا يقرؤون سوى التقارير المقدمة إليهم من مُخبريهم، فقد كان يذوق الأمرين في سبيل إيصالها إليهم..
يحمل تاج شهادة المعهد المتوسط في مجال النفط، وبعد نقله من حمص إلى إدلب عينوه بصفة مدير لمعمل تعبئة الغاز في فرع مؤسسة محروقات التي كانت تُعْرَف باسم (سادكوب) قبل أن يصدر حافظ الأسد مرسوماً بتعريب كل شيء في سوريا، انسجاماً مع تسمية سوريا بـ (قلب العروبة النابض)، وتسميته هو: بـ القائد العربي..
في تلك الآونة استطاع أحد أعضاء فرع حزب العربي الاشتراكي بإدلب أن يعين أحد أقارب زوجته مديراً لفرع محروقات، على الرغم من كونه شبه أمي في مجال النفط ومشتقاته والغاز، ويتمتع بغباء استراتيجي غير قابل للاختراق فيما يتعلق بشؤون الحياة الأخرى.
بمعنى آخر: هذا (الموديل)، صار (وفي دولة حافظ الأسد كل شيء يصير) مديراً على تاج الدين الموسى!
تاج، في الأساس، متشبع بالفكر الشيوعي.. وهو رجل همشري وزكرتي وشيخ شباب (يعني صاحب نخوة)، لذلك وجد ضالته في معمل الغاز..
صار ينظم العمل بطريقة فذة تجعل الإنتاج يزيد باطِّراد، وفي الوقت نفسه يؤمن لعماله متطلباتهم حتى ولو كانت خارج نطاق فرع محروقات.. إذ كان على استعداد أن يتصل بأحد معارفه في مديرية التربية، ليساعد زوجة أحد عماله بغية الحصول على وكالة معلمة.. مثلاً..
ولأن لهؤلاء العمال أشغالاً تتطلب منهم الغياب عن المعمل يوماً كاملاً كل أسبوع، فقد كان يسمح لهم بالغياب، على أن يغطي زملاؤهم غيابَهم، على مبدأ المعاملة بالمثل.
وفي يوم من الأيام، حصلت الواقعة الطريفة التالية:
دعا المدير المدعوم من أحد أعضاء فرع الحزب رؤساء الأقسام في الفرع إلى اجتماع، مما يعرف باسم (اجتماع اللجنة الإنتاجية).. وكلف سكرتيرَه الخاص بكتابة المحضر..
بعد استعراض التقارير والإحصائيات والوقوعات والتي واللتيا، قال المدير لسكرتيره:
اكتب يا ابني. إن السيد تاج الدين الموسى مدير معمل الغاز يقوم بتعطيل الإنتاج. هو يعلم بأن بعض العمال يغيبون عن العمل يوماً كاملاً، ثم لا يرفع أسماءهم بين الغائبين، بمعنى أنه يتستر عليهم.
انتظر تاج حتى انتهى السكرتير من كتابة الفقرة، وقال له:
اكتب، يا ابني، أيضاً، إن مدير الفرع، السيد فلان الفلاني، يسرق أسطوانات الغاز التي تُرسلها المديرية العامة للعمال بأسعار مخفضة، ويبيعها في السوق السوداء عن طريق موزع الغاز علان العلاني، ويتقاسم الأرباح المسروقة مع عضو فرع الحزب الرفيق فليتان الفليتاني..
ذهل الحاضرون، وبضمنهم المدير. وأما السكرتير فقد تلكأ، وتجمد القلم في يده.
قال له تاج: اكتب ولاه!
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية