أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

في تأسيس الاستبداد -١-

لم أستطع في حياتي كلها تعلم أي شيء مفيد. كنت وأنا صغير السن، وكلما هممت بتعلم هواية أفتخر بها، يصدر أمر نقل والدي الشرطي، وكأنه كان وراء باب رغباتي ينتظر إعلانها كي يقوم بقطع حبل السرة معها.

جربت، وأنا صغير في القرية، تعلم العزف على المجوز أثناء رعي بقرات جدتي، فجاء قرار والدي بتمديننا بعد أن اصبح شرطيا، دون احترام لخصوصيتنا ودون استشارتنا، وهكذا وجدنا أنفسنا في دمشق عام ٥٤، وبعد أن كان الفضاء بجباله ووديانه وأبقاره كله ملكي، أصبحت محشورا مع خمسة من إخوتي وأبي وأمي في غرفة دمشقية على أطرف المزة، قريبا من المقبرة، وليست بعيدة عن ميدان سباق الخيل الأسبوعي، فنسيت المجوز والبقرات وغرقت في اكتشاف عالم جديد، وفيه عرفت أن في المدينة دكاكين (جمع دكان) كل منها مختص ببيع مادة أو مواد معينة، ولكن بعد أن دفعت ثمن تلك المعرفة، فقد طلب مني والدي أحد الأيام ان اذهب لشراء كيلو لبن فدخلت إلى أول دكان أراه وطلبت منها اللبن، فنظر إلي الرجل ضاحكا وقال: أنا يا عمو خياط، اذهب إلى الدكان الآخر، استغربت ذلك، ففي القرية يوجد دكان واحد تجد فيه كل ماتطلبه.

كنت قد بلغت الخامسة، عندما أرسلني والدي إلى الروضة فتعلمت فيها بعض الحروف والكثير من خبث الأطفال، وما إن حفظت الفاتحة كي أذهب الى المقبرة عندما أرى ميتا لأقرأها على روحه وأتناول بعد ذلك حصتي من التمر والخبز، حتى جاء أمر بنقل والدي إلى اللاذقية، فأضعت بين رمال شاطئها ما تعلمته في دمشق، ولكنني مع ذلك قررت أن أتعلم السباحة في المياه المالحة، بعد أن كنت قد تعلمتها في برك المياه الحلوة في قريتنا، وبدأت معها في بناء قصور من الرمال أكبر من حجم غرفة أم زهير اللاذقانية، التي استأجرها أبي لنا. في ذلك الزمن، عام ٥٦ تعرفت على اللون النيلي الذي يجب دهن النوافذ به خوفا من غارات إسرائيلية على المدينة أثناء الاعتداء الثلاثي على مصر، وعرفت أننا لسنا وحيدين وأن هناك دولة عربية كبيرة اسمها مصر، وأن علينا عندما نسمع "زمور الخطر" الإسراع إلى الاختباء في الطابق السفلي من البناء، ليس خوفا، كما قال الكبار، ولكن كي نضحك على الإسرائيليين ونبقى أحياء إذا قصفتنا طائراتهم، ولكنها لم تقصفنا. ورغم أني فعلت كل ما هو مطلوب مني، وأنني نجحت في الصف الأول وزورت نتيحة ترتيبي في النجاح من الرابع إلى الثاني كي أرضي أهلي، وأتجنب صفعات اخي الكبير، ولكن مع ذلك صدر قرار بنقل أبي الشرطي إلى حماة، فعدنا إلى القرية كي نغرق في ظلمة أزقتها والوحل الذي لا ينتهي إلا بانتهاء الشتاء.

في هذه السنة، سنة ٥٧ عرفت للمرة الأولى معنى أن يكون الإنسان مسؤولا عن أخيه الصغير، بعد أن عرفت معنى أن يكون الإنسان دون أم. فقد ماتت والدتي في صيف ٥٦، ليس بسبب العدوان الثلاثي وإنما بسبب أزمة قلبية، فقد أنهكت قلبها أربع سنوات من المرض والنزيف الذي لم يكن يتوقف، بعد أن سقطت عن شجرة التوت وهي حامل في الشهر الثامن أثناء محاولة جمع ورق الشجرة كي تأكلها دودة الحرير، التي كانت مصدرا مهما من مصادر الدخل في جبال العلويين في ذلك الزمن. قررت أن أحزن على والدتي، فكسرت المجوز الذي صنعته من القصب وانصرفت للعب مع أخي الصغير وشلة زعران القرية وكانت الحياة أقوى من الحزن على الموتى، ولم أكن أتذكر أمي إلا عندما كنت أقع أرضا، أو يضربني أحد، أو أجوع ولا أجد من يطعمني، وهكذا نسيت ما تعلمته على المجوز، وانغمست، مستمتعا، برواية ما حدث معي في المدينة من عجائب إلى أطفال القرية، الذين لم يصدقوا أن الناس هناك ليسوا بحاجة إلى استخدام "السراج" من أجل الإضاءة، وليسوا بحاجة إلى الذهاب للنبع بحثا عن المياه، ففي كل دار هناك حنفية، وأن الأمهات في المدن لا يخبزن الخبز في البيوت وإنما يخبزه الرجال في مخابز عامة.

في ذلك العمر اكتشفت معنى أن تخترع القصص للأطفال كي يبقوا مشدودين إليك، ومنفذين لرغباتك في سرقة بيضة أحيانا، أو رغيف خبز أحيانا أخرى من أجل الاستمرار في رواية حكايات المدينة لهم، وهكذا أصبحت زعيم عصابة بفضل بعض المعارف المختلفة عن معارف الريف، وبفضل تلك الحكايات المتخيلة. وفي ذلك الزمن من عام ٥٨ تزوج والدي، وقامت الوحدة السورية المصرية، وانتقلنا من جديد إلى مدينة حماة، مؤسسين لعصر من الاستبداد، ومتنازلين طوعا عن حقوقنا في اختيار من يحكمنا.

(155)    هل أعجبتك المقالة (155)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي