جريمة العصر ومجرم التاريخ

مدهش مدى الفرح الذي يلف "سوريا الأسد" بمكوناتها وأركانها كافة، فالبهجة التي تنقص عن الواجهة الإعلامية، يكملها الساسة والمحللون، وما يفوتهم، يتدخل للتتمة أرباب الشعائر والمحرمون، في مشهد يعبر عن انتصار أزلي، مبعثه "جيش الوطن وأعوانه في العقيدة والسلاح" ودحر المؤامرة العالمية والحرب الكونية، والثمن الذي لم يعد سراً، الظاهر والمؤلم منه 1400 طفل وإمرأة وشيخ، ذبحوا في الغوطة، دونما أن تسيل عنهم قطرة دم، والباطن قبول الصفقة، تسليم كل ما يمكن أن يشكل خطراً على إسرائيل، مقابل البقاء على الكرسي وإشغال العالم بما هو أعظم، وعدم الذهاب لمحاكم جرائم الحرب..وتمديد الإقامة في قصر تشرين إن لمست واشنطن حسن السلوك وأتقنت موسكو الجمع بين المتناقضات وأجاد الممانعون أولاد الممانعين رقصة "السربتيز".
اليوم، لم يعد السلاح السوري الكيماوي في واجهة الأحداث، ولم يعد قتلاه موضع بحث وتحقيق أو حتى نقاش، فما جرى تحريكه في الداخل السوري من صراع "داعش" و"الحر" هنا، وما يحاول النظام تسويقه عبر حملته الإعلامية هناك، مضاف إليهما الشقاق ومحاولات لمّ الشمل بين المعارضة، لتوحد موقفها وتتوحد استعدادا لجينيف، كل ذلك ومعه برد الشتاء وجوع أطفال دمشق وإضراب أهليها، سرق الضوء عن جريمة الغوطة وأشغل شعبا نساءً بتفاصيل التفاصيل، لتذهب حقوق أسر أبيدت عن بكرة أبيها، طي النسيان.
في هذه الآونة، نكأت"زمان الوصل" جرح الغوطة من جديد وفاجأت القراء بمعلومات جديدة، تدحض مزاعم موسكو وتردد الأوروبيين، بل وتضع بعض الأشقاء ومن ادعى الصداقة، ضمن دائرة الاتهام، في صفقة تؤكد دونما ريب، أن النظام ضرب صواريخ الكيماوي وقدم الرشى لكل من يهمه الأمر..ربما بما فيهم المفتشون ومرسلوهم.
بلغة أخرى، لم يأت قتل السوريين الآمنين النائمين عبثاً أو محض مصادفة، بل ولا ردة فعل أو خوف من اقتراب الثوار من حصون دمشق، بل أكدت زلات الألسن عن اتفاق مسبق بين قطبي العالم، ممهور بمعرفة طهران وموافقة الأسد، ليكون قرابين الغوطة ثمناً لتغيير مجرى الحالة السورية برمتها، وتتغيّر فصول المسرحية ولا يسدل الستار- كما الإخراج الجديد – على نصر ثورة، بل على كلمة "يتبع" إلى أن يرى المؤلف ما يمكن أن يضاف إلى الشرق أوسط اللعبة، حتى لجهة الجغرافيا كما سربت ال"نيويورك تايمز" خريطة العلويستان، لمعرفة قدرة العرب على الدفع والاحتمال.
قصارى القول: أجاد الأسد قواعد اللعبة، أو أملاها عليه الحلفاء، وعرف، أو علمه الحلفاء، كيف يلعب أفضل من الآخرين، فتخطي خط أوباما الأحمر، أظهر مجلس العموم البريطاني والكونغرس بشقيه"نواب وشيوخ" كأنهم هنود حمر، ورمى "الغولة" في وجه العالم المتحضر، لينعي عبر أطفال الغوطة، مجلس الأمن والأمانة العامة للأمم المتحدة..وكل منظات حقوق الإنسان، وضمن عرشاً بعمر التفكيك والنقل والبيع على أقل تقدير، وأهدى لمستقبل سوريا لا تعايشاً وأحقاداً وبذور تقسيم.
خلاصة القول: باع النظام الممانع كل أدوات وعوامل الممانعة، وسيدفع- كما النكات المصرية ثمن نقل الخسارة – في عداوة مدهشة، للوطنية تكاد ترقى إلى غريزة حيوانية وسلوك منحرفين، كرمى لكرسي ولوهم انتصار، بالبقاء بصرف النظر عن الأثمان هو الغاية ومبعث الوسائل، ولسخرية التاريخ ومحاسن الصدف، أن جاء لسوريا هكذا حكام وكللها القدر بهاتيك معارضات، فبعيداً عن حسن حظ "حكم الرعيان" بهكذا معارضة تكفل لحكام الخليج الانتصار فيما لو عارضوها، فهو سليل نظام وذهنية اعتبرت في تشرين 1973 وحزيران 1967 انتصارات لمجرد أن النظام التقدمي الممانع لم يسقط.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية