في مثل هذا اليوم من العام 200 غادر سوريا زوجان شابان، تحملهما اجنحة المغامرة الى العالم الجديد بحثا عن السعادة المفقودة والثروة الموعودة، والحرية المؤجلة. وبعد سنوات من الكد والجد والتعب استطاعا تجاوز حد الفقر الكندي، وكونا رصيدا ماليا يقيهما غدرات الزمان. في ذلك المتسع من البحبوحة قررا إنجاب طفلهما الأول، وكان لهما ما أرادا إلا قليلا، فقد كان المولود "أنثى" وكانا يمنيان النفس بـ"ذكر" يحفظ المال واسم العائلة في العلالي، كما فعل مثالهما، الخالي من العيوب.. حافظ الاسد، الذي ورثه ابنه بلدا كاملا، أما هذه الفتاة، ناقصة العقل والدين، فقد تكون في قادم الأيام مشكلة، مشكلة في مراهقتها، ومشكلة في زواجها، ومن يدري فقد تكون مشكلة في طلاقها أيضا، ومشكلة في نقل حصتها من الإرث إلى اسم آخر بعد الزواج. كظم الزوج غيظه، حاسدا "الجاهليين" على قوانينهم التي كانت تسمح بوأد المولودة، وبدأ يخطط لمولود ذكر، مستشيرا الأطباء والنجوم، مستخدما "الأوراق" الصينية، والحسابات الهندية، والكيمياء العربية، عندما كان يريد ممارسة الجنس مع زوجته، إلى أن بلغ ما كانت تصبو إليه نفسه، وجاء الذكر، فانتصب ظهره به، وقوي عضده، وطفح الفرح من خديه وعينيه، وتأكد أن "فحولته" ما زالت بخير بفضل رعاية "القائد الملهم".
انهمكت الزوجة بالولدين، تاركة مكانها، في المخزن الذي كانا يملكانه، لعاملة، على أمل أن تعود إليه بعد أن يكبر الولدان قليلا.
ومرت السنون سريعا والزوجة في البيت، مقتنعة بمنطق زوجها الذي كان يؤكد دائما أن وجودها في البيت أهم من العمل، فالأولاد، حسب رأيه المعلن، هم الثروة الحقيقية، مضيفا أنه يقوم بواجب العمل كما يجب. وتكر الأيام دون حساب، والولدان يكبران، ينظران حولهما فلا يجدان إلا أما محبة عطوفا، وتلفزيونا يعطيهما ما يشاءان، ومدرسة تنمي عندهما القدرة العقلية على محاكمة الظواهر وتحليلها، واستخلاص النتائج المنطقية منها.
أما الزوج فكانت فترات غيابه عن البيت تزداد يوما بعد يوم، وساعاته التي كان يقضيها فيه كانت موزعة بين النوم وتبرير غيابه "التجاري" عن الأسرة، وتوبيخ الطفلين والأم على سوء تصرفهم وانجرافهم في تيار المجتمع الكندي " المتحلل من كل القيم الأخلاقية"، محملا الأم المسؤولية الكبرى فيما وصل إليه وضع الأسرة من "تدهور"، مهددا إياها بالويل والثبور وعظائم الأمور إن هي استمرت بالسماح للأطفال بمشاهدة التلفزيون، الذي لا يعلمهم إلا قلة الادب، فبرأيه: أن عدم احترام "الكبار" ومناقشة ونقد كل كبيرة وصغيرة من أمور دينهم ودنياهم مع الآخرين، وخاصة السوريين منهم، ما هي إلا قلة الأدب بعينها، فلو كان في الحوار فائدة لكان سيادة الرئيس قد سمح به.
كانت الزوجة، في أغلب الأحيان، تلتزم الصمت أمام زوجها، فهي لا تريد توسيع الفجوة التي بدأت تظهر بين الأب من جهة وبقية أفراد الأسرة من جهة أخرى، إلا إنها حاولت عدة مرات مناقشته والرد على اتهاماته بهدوء وحكمة المرأة الصابرة، لكنه في كل مرة كان ينهرها، وأحيانا يشتمها، قبل أن يخرج صافقا الباب وراءه، لاعنا الساعة التي جاء فيها إلى هذه البلاد، حيث النساء قوامات على الرجال، وحيث البيوت الزوجية قد تحولت إلى جحيم لا يطاق.
في أواخر العام 2011، وكانت الثورة السورية قد حسمت ترددها، ورفعت شعارات إسقاط النظام، وكان رد عصابة الأسد القتل "عن أبو جنب" للسوريين، كان الرجل يبدو كمجنون قد هرب من العصفورية، وأصبح غيابه عن البيت يستمر عدة أيام خلال الأسبوع، وكانت نساء سوريات أخريات قد بدأن بالتردد إلى بيت السيدة لتبادل الآراء في الأحداث السورية، وكانت فرصة مثالية كي تسمع منهن تلميحات وقصصا عن زوجها وغرامياته، وسهراته "العرمرمية" في المطاعم العربية، وعن زياراته الدورية إلى أندية القمار، فقررت أن تنهي هذه "الوشوشات"، بالتوجه مباشرة إلى من هو زوجها حتى الآن.
وفي إحدى الليالي، وكان الدم في حمص قد وصل إلى "الركب" بعد فض اعتصام الساعة الشهير، عاد الزوج في ساعات الصباح الأولى ثملا، فتقدمت منه الزوجة طالبة كشف حساب عن السنوات الماضية. واستيقظ اليافعان على صوت عويل والدتهما، التي كانت ما تزال تتلقى اللكمات من والدهما. هنا أسرعت الفتاة إلى الهاتف واتصلت بـ"البوليس"، بينما التفت الولد إلى أبيه قائلا: إذا كان وطنك الذي تهددنا دائما باقتيادنا إليه، على صورتك ومثالك، فالخير كل الخير أن تعود الآن إليه وحيدا قبل فوات الأوان.
وصل "البوليس" إلى البيت بعد دقائق، واستمع إلى شهادة الولدين، ثم عاين آثار الضرب على جسد الأم، مسجلا إفادتها، واقتيد الرجل إلى السجن.
أما بقية القصة فكلكم تعرفونها أيها السادة، إنهم يحتاجون بعض الوقت لإسقاط صفة الزوج عن الرجل.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية