أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

عن جدتي والسرير الحديدي

أمضيت آخر خمس سنوات من عمر جدتي وأنا أنام في غرفتها، ولا أذكر أنني نمت ليلة كاملة نوما متواصلا، فقد كانت توقظني أكثر من مرة لنتبادل أسرتنا وأحيانا وسائدنا ولحفنا، وكانت تشكو دائما من قساوة "راصورات" التخت الحديدي، وأحيانا من اللحاف القطني سيء الصناعة، أو من قساوة الوسادة التي تمنع النوم من الوصول إلى رأسها. وفي الحقيقة، كان السبب، في كل ذلك، هو عظامها، التي غدت، مع تقدم العمر، هشة ورقيقة، دون لحم يكسوها.

سألتها مرة، وقد طار النوم من عيني: ماذا بقي في ذاكرتك عن الحب يا جدتي، هل يخطر ببالك جدي الذي مات في الأرجنتين؟
قالت: الحب يا ابني....! ثم شردت قليلا، وتابعت: حديد التخت كتير قاسي يا ستي، ما فيه حنية ذراع جدك.

لم تكن جدتي تنتظر سؤالي كي تبدأ باستحضار التاريخ، فلم يعد بإمكانها فعل شيء إلا تذكر الأيام الجميلة من تاريخها الريفي، متناسية المآسي التي كانت تمر عليها كل يوم، ابتداء من هجرة زوجها إلى الأرجنتين، وتركها وهي في عز شبابها مع طفلين، ثم وصول الطحين الجاهز إلى القرية، مما أدى إلى توقف العمل في طواحين المياه التي كانت تملكها، مما جعلها تقترب أكثر من الفقر الأسود، مرورا بالتحاق ولديها في سلكي الشرطة والدرك وإهمال الأرض، وانتهاء بوصول خبر وفاة زوجها في الأرجنتين، مترافقا مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة في سوريا.

قالت لي، بعد أن جلست على طرف السرير: كان جدك وسيما، تتمناه كل فتيات القرية، ولكنني فزت به زوجا، بمهارتي الشخصية في تحضير الطعام، وفي قدرتي على العمل في الحقل، وكنا مرتاحين جدا، ولم أفهم لماذا هاجر، فالبرغل كان متوفرا عندنا أغلب أوقات السنة، وكذلك التين اليابس والزبيب، لم يكن ينقصنا شيء، يبدو أن الفرنسيين قد لعبوا بعقله وعقل بقية الشباب المسيحيين فشجعوهم على الهجرة من مرفأ بيروت بعد ثورة (ال ٢٥) ضدهم، ليخلوا لهم الجو في التنعم بخيرات سوريا.

قلت لها مازحا: ولكن رغم قولك إنك كنت تحبين جدي الوسيم، لم تستطيعي أن تنجبي منه إلا والدي وعمي! قالت: ومن قال لك هذا؟ لقد أنجبت ستة أطفال خلال ست سنوات، لم يعش منهم إلا والدك وعمك، فهما الوحيدان اللذان استطاعا مقاومة الأمراض، أما الآخرون فقد ماتوا قبل أن يتموا العام الأول من عمرهم.

سألتها، متظاهرا أنني لا أسمع جوابها وغير مهتم به: خلال غياب جدي الذي استمر أربعين عاما، ألم يرفرف قلبك شوقا لرجل آخر من رجال القرية؟ قالت بغضب، وكأنها نسيت آلامها: "فشروا، ولا واحد منهم كان بيطلعلو يطلع لركبة جدك".
قلت: ولكن كيف صبرت على بعده عنك، وأنت الصبية المعروف عنها في القرية أنها كتلة من نار، وصاحبة الأراضي والحيوانات والطواحين؟
قالت، وكأن الوصف قد راق لها: في السنوات الأولى لهجرته، كان يكتب لنا مرة كل عدة أشهر، قائلا إنه سيعود قريبا، عندما يجمع من المال ما يكفي كي نكون أثرياء. وكنت أقول لمن يكتب له الجواب أن يخبره أننا اثرياء، أوليس الثراء هو الأكل والشرب والنوم تحت سقف، ونحن نملك كل ذلك وزيادة، وأن أولاده يكبرون وهم بحاجة إليه أكثر من حاجتهم للمال، وأنه إذا استطاع إدارة أملاكه هنا فسيكون من الوجهاء المسموعي الكلمة. ثم بدأ عدد رسائله يتراجع وكذلك ما يرسله من نقود، وكان أملي بالعذراء الطاهرة وبعودته، مع ذاك قويا، مما ساعدني على أن لا أرى من الرجال غيره، وكنت أذكره في كل قداس من قداديس الأحد في الكنيسة، كي يعرف الناس أنني ما زلت المرأة التي تحب زوجها رغم غيابه الطويل، ولم أقطع الأمل أبدا بعودته إلى سوريا إلى أن وصلت رسالة من خالك يقول فيها إن جدك ابراهيم قد مات، وكان ذلك قبل خمس سنوات من الآن.

أصرت جدتي، قبل وفاتها أن تعود إلى القرية، إلى البيت الطيني الذي بنته بيديها مع زوجها قبل حوالى ثمانين عاما لتموت فيه.

بعد وفاة جدتي بحثت عن الأجزاء الناقصة من قصتها، فعرفت من أختها، أن إشاعة انتشرت في القرية تقول إن جدتي قد أحبت رجلا آخر شديد الشبه بجدي، ولكن ليس هناك من يؤكد أنه رآهما معا ولو لدقائق. كما أن الهجرة استمرت من سوريا بعد طرد الفرنسيين، وخاصة هجرة المعارضة بعد قيام الثورة السوريا العظمى، مكتفين، كما كان يفعل جدي، برسائل التطمين وبعض النقود إلى أهلهم.

(162)    هل أعجبتك المقالة (162)

حامد

2013-08-23

الشكر لميخائيل سعد على هذه الوجبة الخفيفة للمواطن الضائع تحت اقدام سلطة لاتعرف المحرمات وبعض السوريين الراقصين على دماء هذا الشعب العظيم واليوم الفاتيكان تحدث بعض صوم عن الكلام ان لامصلحة لنظام الاسد باستخدام الكيماوي وكان صواريخ السكود التي انهمرت منذ عامين مصدرها اسرائيل - ننتظر من سعد فضح علاقة رجال الدين بالسلطان ..


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي