لم أكن أعرف المعارض السوري الشجاع، المقدام، الصنديد، المِكَرّ، المَفَرّ، الدكتور (سين صاد) عن قرب.. كنت أراه، منذ بدايات الثورة، جالساً، آناء الليل وأطراف النهار، في استوديو إحدى الفضائيات المعارضة، يحكي، ويتفلسف، ويصرح، ويبيض بيضاً حبارياً من مؤخرة عصفور دوري!..
ففلان من الناس- برأيه- حقير، ونحن ننتظر انتصار الثورة حتى نحاسبه حساباً عسيراً.. وعلان العلاني شبيح ملتصق بالنظام الديكتاتوري، وعَلاك البان مُخبر، مرتبط بالأجهزة الأمنية، وسوف نفرمه، وزيد عواطفه ليست مع الثورة، و.. و..و.. وسوف نعتقل، وسوف نحاسب، وسوف نعلق مشانق، وسوف نقطع أوصالاً... فأتخيله (هتلراً) صغيراً تافهاً، وأسارع إلى تغيير القناة لئلا أدخل في حالة عصبية تؤثر على أعصابي، وتوترها أكثر..
كنت- أنا محسوبَكم- وما أزالُ، مولعاً بالثورة، أشتغل فيها على الأرض، وأتعرض للمخاطر من أجلها، وأسعى للتقرب من الثوار، وأتمنى أن يكونوا أحسن مما هم عليه، وأحاورهم، وأستلطفهم، وأحنو على الصغار منهم، وإذا كان عندي شيء أقدمه لهم لا أتوانى عن تقديمه، ومَنْ كانت تربطني به- قبل الثورة- علاقة سيئة، وجدتني أكتب له على الفيسبوك مطالباً إياه بتصفية النفوس، ونسيان الأخطاء والهفوات والتناقضات السابقة، وأن الصلح سيد الأحكام.. إلا هذا الدكتور (سين صاد)، فقد كنت أتمنى ألا ألتقي به، على الإطلاق، بل تمنيت لو أنه كان مؤيداً للنظام، شبيحاً، منحبكجياً، متمثلاً لشعار: مطرح ما الأسد يدوس نحن نركع ونبوس!.. وأن يكون عدوي، على نحو صريح، لا لبس فيه.
ودارت الأيام، ومرت الأيام، وإذا بنظري يقع على هذا الكائن في قاعة الترانزيت بمطار "هاتاي"، حيث كان يتخلى عن حزام بنطاله الكريم، من أجل أن يدخل في حيز جهاز التفتيش الإلكتروني، فما كان مني إلا أن شرعت أختبىء، غريزياً، وراء العمود، خشية أن يراني، فأضطرَّ لمجالسته في الفترة التي تسبق إقلاع الطائرة، ناسياً، من شدة وهلتي، أنني أعرفه، وأما هو فلا يعرفني (شخصياً)، يعني لم يكن ثمة ما يدعو للاختباء.
وذات يوم، وبينما أنا أعاني من البرد القارس في البلدة التركية التي أعيش فيها، وإذا بأحد أصحابي يتصل بي، ويقول لي: أنا موجود في المكان الفلاني.. قلت له باندفاع: عظيم. أنت الآن على بعد أمتار قليلة من بيتي، تفضل زرني.
قال: لا لا. نريد أن نصحبك إلى المقهى، ذلك أن صديقنا المشترك الدكتور ( سين صاد) لا يطيب له الجلوس والكلام في السياسة من دون أركيلة معسل "فخفخينا" أصلي.
وأوضح لي، في عجالة، أن سيادة المعارض المقدام الدكتور (سين صاد) يحبني كثيراً، ومتابع نهم لمقالاتي في أورينت نت وزمان الوصل، وعندما علم بأنني أسكن في هذه البلدة جن جنونه، وأبى (أعجبتني كلمة أبى باعتبارها إبليسية) إلا أن يتعرف علي شخصياً، ويجالسني، ويدعوني لحضور النشاط السياسي الذي يزمع إقامته في الغد.
خلاصة القول هو أن (الفأس وقع في الرأس)، و(الضرورات التي تبيح المحظورات) ساقتني إلى حيث يسهر حضرتُه، ويدخن الأركيلة بشراهة، ومن خلال الفتحة الصغيرة التي كان يخرج منها الدخان بنفس الغزارة التي يخرج بموجبها الدخان من (إشكمان) ميكروباص انبعجت فيه طرمبة الزيت!.. أفهمني المعارض النحرير أنه جاء إلى هنا لتشكيل حكومة سورية في المنفى!.. وأن الاحتفال بتشكيل الحكومة سيكون في الفندق (عين).
قلت له متعمداً استخدام لغة النظام السوري: عفواً.. أنت من مجلس الأمناء تبع هيثم المالح، أم من مجلس اسطنبول، أم من ائتلاف الدوحة، ام من تيار بناة المستقبل تبع وليد الزعبي، أم من جماعة رياض حجاب والمنشقين عن النظام؟
قال: لا لا، أنا مستقل!.. ومن الآخر: أنت ستحضر الاحتفال، وتلقي كلمة، لأني بصراحة معجب بأسلوبك في الكتابة والخطابة!
لم يكن في كلام الرجل أي نوع من الحقارة، مما يعني أنه غبي، ومسطول أصلي أبو طعجة..
ههنا، وبصراحة، لم يحضرني حس السخرية، وإنما حس (المسخرة) فسألته بجدية مصطنعة:
دخلك، وأنا أي حقيبة وزارية طلعت من حظي، أم أن هذا سر ستذيعه في الغد؟
فوجىء بسؤالي فقال: آه؟ عفواً.. الحقيقة أن الحقائب موزعة.. و.. قاطعته قائلاً: لا عمي لا. أنا لا أشتغل بصفة عريف حفل.. ومن دون زعل: إما أن تخصص لي حقيبة، يا إما بيفتح الله!
ثم فركت يدي ببعضهما وقلت له: لا تواخذني، أنا لا أغادر البيت في الشتاء بسبب البرد. اتمنى لكم التوفيق أستاذ.
في اليوم التالي رأيت صاحبي القديم في المقهى، في نفس فترة تشكيل الحكومة.. قلت له: خير؟ أراك هنا؟
قال: للأسف الأتراك قلعونا من الفندق. بحجة أننا لم نحصل على موافقة..
قلت: وصاحبنا المعارض كمان قلعوه؟
ضحك وقال: هو أول واحد!
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية