المشكلة في فهم معنى القتل .. هل هو يعني إزهاق الحياة .
1- لو كان فعل قتلَ يأخذ هذا المعنى المتطرّف لإزهاق الحياة، فلا يمكن أن يكون أتباع دين محمد إلا إرهابيين، فتعدد ألفاظ القتل والقتال والتقتيل أكثر من أن تحصى، ولايمكن تغطيتها بأي حال من الأحوال.
2- لقد استُعمل هذا المعنى من قبل السلطات الاستبدادية على مدى التاريخ لتبرير إزهاق الأرواح، بحجة أن هذا ماقاله الله تعالى، وابتعدت كل القواميس العربية التي وصلت إلينا عن شرح معنى هذا الفعل بحجة أنه مفهوم المعنى.
3- في اللغة العربية يأخذ الفعل الرباعي فاعَلَ معنى تبادل الفعل بين طرفين:
ضاربَ : أي تبادل طرفين فعل الضرب .. صارعَ أي تبادل طرفين فعل الصرع .. ماسكَ أي تبادل فعل المسك ... فكيف سيكون معنى قاتلَ إن كان يعني معنى إزهاق الحياة .. هل يعني أن الطرفين يتبادلون معنى إزهاق الحياة لكل منهما .. وهنا سيتحول القتال إلى مذبحة حقيقية !.
4- القتال ليس معناه إزهاق الأرواح بل هو صراع بين طرفين يبدأ بالرفض القلبي للطرف الآخر، وقد يصل إلى معارك مهلكة ومميتة.
فمن صفات المؤمن أنه يقاتل في سبيل الله من أجل الحرية والعدل والكرامة، وبالتأكيد فإن الله تعالى لم يضع هذا الصفة المطلقة للمؤمن بمعنى أنه يزهق حياة الآخرين. والكافر يقاتل في سبيل الطاغوت من أجل مصالحه والمكاسب الدنيوية التي يأخذها من أهل الظلم والطغيان { الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً }
ولنتأمل هذه الآية القرآنية:
{ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }
فهل إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين "بمعنى القتل المتبادل" نبدأ بإزهاق أرواح الطرف الباغي حتى يفيئ .. وإن فاءت تلك الفئة نصلح بينهما !!
إن معنى الاقتتال هنا يأخذ معنى الصراع بين طرفين .. والقتال ضد الطرف الباغي قد يأخذ معنى الحصار الاقتصادي أو السياسي، أو قد يأخذ معنى أي أذية أخرى للضغط على الطرف الباغي، وذلك بهدف أن يفيء إلى أمر الله وليس بقصد فتح المعارك ضده، وترسيخ المشكلة أكثر.
5- ورد في الذكر الحكيم "{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } فالله تعالى وضع هاتين الكلمتين المتضادتين " فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ". وهنا يأتي معنى المقتول بمعنى المهزوم .. أي أن المقتول هو المغلوب .. وهذا مايؤكد معنى الصراع وليس فقط المعنى المتطرّف من الصراع "إزهاق الأرواح".
ومثال على القتال: من يعمل برامج على الانترنت وآخر يعمل هاكر للقضاء عليه .. هذا مثال على القتال .. وقد ينهزم الأول "يُقتَل" وقد يَغلب .
6- ورد في الذكر الحكيم مرات عدة تحريم قتل الأولاد :
وهنا لايستقيم معنى الذبح أو إزهاق الأرواح في هذه الآيات مع جوهر الرسالة الإلهية. فالقرآن نزل علينا نحن الناس الطبيعيين الذين تأبى فطرتنا أن نقتل أولادنا، ومن يقتل أولاده منا أو من أسلافنا الأقدمين يكون مصاباً بالجنون. بل إن الحيوان يأبى ذبح أولاده أو إزهاق حياتهم فكيف بالإنسان.
هنا القتل بمعنى التربية السلبية الاستبدادية والضغط على الأولاد، حيث يسعى الأبوين أن يُنشئوا أولادهم على نفس الثقافة التي اقتنعوا بها وعلى نفس المبادئ التي يحملونها، وبالتالي هم يمنعون التطوّر الطبيعي الذي تحتاجه الحياة المتغيرة. ومازلنا للآن نعاني من أمراض الطائفة والقيم القديمة التي تتوارثها الأجيال ويحافظ عليها الآباء بتعليمها للأبناء بكل وسائل الضغط تحت اسم المحافظة على العادات والتقاليد أو الشرف وكرامة الآباء والأجداد، بل ومعاقبة من يشذ عن القاعدة.
من هنا نجد أن هذه الآية مازالت فعّالة برسالتها العظيمة بالنهي عن تطويق عقل الأولاد بأمراض الآباء والأجداد :
{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
ونلاحظ أن هذه الآيات أتت لتصف المؤمنين. فنحن نفهم أن الإحسان للوالدين وعدم الاقتراب من الفواحش والابتعاد عن السرقة والزنا وغيرها هي من صفات المؤمنين. فهل يستقيم أن عدم قتل الأولاد من صفات المؤمنين أيضاً وهي فطرة بشرية طبيعية لكل الناس مؤمنهم وكافرهم !.
ولنلاحظ موضوع قتل البنات بالذات أو وأدهنّ ، والذي مازلنا نعاني منه للآن بحجز حرية البنات وعدم تعليمهنّ أو تزويجهنّ المبكّر أو ذبحهنّ تحت اسم الشرف أو العادات والتقاليد. فمازال قتل النبات صفة إنسانية سيئة يسعى الإنسان للتخلص منها، ومادعوات تحرير المرأة ومساواة المرأة بالرجل إلا دليل على أهمية هذه الآية التي حرفنا معانيها باختراع قصص الوأد تحت التراب لكي نحافظ على أمراضنا الاجتماعية والثقافية : " وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت ".
وليس أوضح من هذه الآية الدالة على معنى القتل هذا { وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }
وهنا يقول الله تعالى بوضوح أن المشركين يقتلون أولادهم لكي يلبسوا عليهم دينهم، فهل هنا القتل بمعنى إزهاق الحياة!.
** القتال صراع بين طرفين يأخذ معنى الموت أو إزهاق الحياة بالمعارك العسكرية بأحد معانيه، وهو المعنى المتطرف للكلمة .. ولكنه يأخذ أيضاً معنى الصراع بالكلمة والفكرة والاقتصاد والسياسة والإغاثة وكل أشكال العمل المدني .. والتخطيط والتنظيم والتنسيق .. والله تعالى يحبنا أن نقاتل في سبيله كالبنيان المرصوص .
{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ }.
عن القتل والقتال في القرآن الكريم

د.عدنان بكيرة
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية