أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

تذكرة الغافل بصيام المقاتل: مجاهدة النفس.. أول درجات الجهاد في شهر الطاعات

لاشك أن مُعالجةَ النَّفْس ومُجَاهَدتها من أعظم أنواع الجهاد؛ لأنه جِهَاد يَسْتَغْرِقُ العمر كله، وإذا طال الأَمَد ضعفتِ النفس، فاحتاجت إلى مُجَاهدة أكثر. يقول سُفْيان الثوري - رحمه الله تعالى-: "ما عَالَجْتُ شيئًا أشد عليَّ من نفسي: مرة لي؛ ومرة علي". وكان عمر -رضي الله عنه- يُخَاطِب نفسه، ويَقْهَرها حتى لا تَجْمح به، فتُخْرِجه عن الجادَّة. دخل -رضي الله عنه- حائطًا فبدأ يُخَاطِب نفسه ويحاسبها، قال أنس -رضي الله عنه-: فسمعته يقول: "عمر بن الخطاب أمير المؤمنِينَ، بَخٍ بَخٍ، واللهِ يا ابن الخطاب لتَتَّقِيَنَّ الله، أو ليُعَذِّبَنَّك".

إن الإنسانَ قد يُجَاهِد غيره؛ لكنه يَنْسَى نفسه التي تحتاج إلى جِهَاده، فيَذَرُها تركب هواها، وتنالُ مطلوبها، ولا يَحْسب أنها تحتاج إلى مجاهدة؛ بل قد يُنْكِر ذلك، ويرى أنه على أحسن حال، أو على الأقل ليس أَسْوَأَ الناسِ، وهذا يُقْعِدُه عن المجاهدة، فيسير في الرَّدى، ويُوشِك أن يهلك. وفي هذا المعنى قال علي -رضي الله عنه-:"أولُ ما تُنكِرُون من جِهادِكُم أنفُسُكم، ولعل أول خطوات مجاهدة النفس الاعترافُ بأنها تحتاج إلى مُجَاهدة، والنظر إلى نَقْصِها، وعَيْبِها، وخَطَئِها، ومقارنة ذلك بالنفوس التي تفضلها وتتفوق عليها. ومن لم يعترفْ بتقصيره وخطئِه فكيف يُجَاهد نفسه؟! وكيف يستمر على المجاهدة العمر كله؟! قال أبو يزيد البسْطَامِيّ: "عملتُ في المجاهدة ثلاثين سنة، فما وجدتُ شيئًا أشد عليَّ من العلم ومتابعته..." وكما أن اجتنابَ المعاصي يَحْتاج إلى مُجَاهدة للشيطان، ومقاومةٍ للنفس الأمَّارة بالسُّوء، فإن التزام الطاعة والمحافظة عليها، وأداء الفرائض والمَنْدُوبات يحتاج إلى مُجَاهدةِ النفس المَيَّالَة بطبعها إلى الرَّاحة والكَسَل، وإلى مُجاهَدة الشيطان الذي يُثَبِّط العَزَائم، ويضعف الهِمَم، ويزين للعبد ترك اكتساب الحسنات. وهذا هو دَأْب الصالحين من عِبَاد الله -تعالى- من النبيين والصحابة، والتابعين لهم بإحسان: دوام المجاهدة في سبيل الله -تعالى- وقَهْر النفس على اكتساب الحسنات، وترك السيئات. وواقع المُجَاهِدِين يدُلّ على ذلك: فهذا نبي الله يوسف -عليه السلام- دعاه الشيطان إلى مُقَارَفَة الحرام مع امرأة العزيز، التي زَيَّنَتْ لها نفسُها الأمَّارة بالسوء عمَلَها فراوَدَتْهُ عن نفسه؛ لكنه -عليه السلام- جاهد نفسه، ولم يستَسْلِم للشيطان ولِهَواه، فقال: ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [يوسف: 23]، واعترف بعجزه وضعفه رغم مُجَاهدته، وسأل الله -تعالى- العافيةَ من هذا الابتلاءِ، ولما سألَ رجلٌ النبي صلى الله عليه وسلم مُرَافَقَته في الجنة قال له: ((أَعِنِّي على نفسِك بكثرة السُّجود))؛ وهذا يحتاج إلى مجاهدة، إذا حققها العبد بلغ ما تمنى، وأعطاه الله ما سأل؛ إذ نَيْلُ المطالبِ يحتاج إلى عمل، ولا تُنَالُ بالتمني فقط، فإذا اجتمع العمل مع صِدْق التَّوَجُّهِ إلى الله -عز وجلَّ- نال العبد ما أراد.

فارس الرفاعي - زمان الوصل
(152)    هل أعجبتك المقالة (149)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي