١-
تسير البشرية بشكل عام، والغرب منها بشكل خاص، نحو مزيد من الاختزال. فنمط الحياة المعاصرة يفضل الوجبة السريعة عن تلك التي تحتاج إلى زمن طويل لتحضيرها، والأغنية القصيرة ذات الإيقاع السريع، والمقال الصحفي القصير أو البوست الفيسبوكي الذي يعتمد أسلوب الجملة الواحدة أو اقل.
ولم ينج الحب من الاختزال بدوره، فالمقدمات الغزلية سقطت، والتشبيهات البلاغية أضحت من مخلفات الأزمنة البطيئة، وأصبح الحب المعاصر على شاكلة "الهمبرغر" أو "الهوت دوغ"، يتحول إلى فضلات يطرحها الجسد قبل أن يهضمها.
ولم يستطع الإنسان ذاته الهرب من قبضة هذا "الإله الجديد" الذي خلقه بيديه، فتحول بدوره إلى شيء ُيشار إليه برموز أو أرقام، ففي البدء سقطت في الامتحانات الألقاب الاجتماعية والطبقية، ثم لحقتها الألقاب العلمية، تلتها في ذلك الأسماء الشخصية. وهكذا أصبحتَ تفتش في الجامعات الكندية باحثا عن لقب دكتور فلا تعثر عليه، وتزور المستشفيات فلا تقرأ كلمة طبيب على جبين أحد، وتتفقد المدارس الابتدائية فلا تسمع طالبا يقول مرتعشا: أستاذ أو معلم، وتتابع أعمالك في الوزارات والمؤسسات الخاصة والعامة فلا تعثر على باشا أو بيك، ولا تشم رائحة آغا أو خواجة أو أفندي، ولست مضطرا أن تفتش عن رفيق قطري أو قومي كي تضع في يده، خلسة، بعض الدولارات لتسيير معاملاتك، وقس على ذلك كل شيء، ابتداء من البيت وانتهاء بمجلس الوزراء، إلا عندنا نحن المهاجرين، فقد دخلنا العصر من أبواب أخرى، لم نصممها، ولم نصنع أقفالها، وليست عندنا مفاتيحها، وليس أمامنا سوى خياران للدخول: إما الوقوف بانتظار "السندباد" وكلمة السر، وإما كسرها وابتلاعها قطعة وراء الأخرى.
العامة" من المهاجرين أدركت بحسها العملي، وعقلانيتها المتطابقة مع الواقع الجديد أن عليها ابتلاع قطع الخشب، قطعة قطعة، مرة بمباركة ودعاء الخوري والشيخ، ومرات بدونها، ومرات أخرى بطهوها مع قطعة من اللحم الحلال، ومرات بدونها، أو باعتبار قطعة الخشب من خشب الصليب المقدس، الذي يجدد الشباب فيسهل بلعها نفسيا حتى لو جرحت البلعوم، المهم أن هؤلاء قبلوا بقسمتهم ونصيبهم من الحياة الدنيا دون تعقيد، وإن لم يخل الأمر من صعوبات، وقبلوا ان يناديهم أولادهم بأسمائهم، وتعلموا بسرعة أن ينادوا الآخرين بأسمائهم المجردة.
٢-
أما "أمّ العقد" فكانت هناك، عند "المثقفين" وحملة الشهادات العليا والاختصاصات الفنية والتكنولوجية والزراعية والفضائية وحملة مفاتيح الجنة، والسياسيين المؤيدين والمعارضين، الذين أمضوا طفولتهم وزهرة شبابهم وراء مقاعد الدراسة، فضمر عودهم وشح نظرهم، وابتلوا بشتى أنواع الأمراض، إلا الأمراض الجنسية، لأنهم كانوا يفضلون العلاقات النظرية مع الصبايا، قبل أن يحصل الواحد منهم على شهادته، وينال بجدارة لقبه العلمي، فكيف لا يشاجر عندما يناديه أحدهم باسمه المجرد من اللقب. ونحن، هنا، لا ندخل في حساباتنا حملة الشهادات العليا الأسديين، الذين اشتروا شهاداتهم وألقابهم كي يدخلوا في السباق الوطني على الوظائف المدرة للمال!
كان أصدقاؤنا هؤلاء يعرفون، لكنهم يكابرون، والإنسان خلق عنيدا، أن الالقاب تكتسب مضامينها الفعلية بالممارسة العملية، وبدون ذلك تبقى الشهادات حبرا على ورق، وإلا فبأي "بنك" يمكن صرف لقب الدكتور الفيلسوف أستاذ الجامعة "فلان"، بعد أن هجر جامعته، ونسي فلسفته، وانفض عنه المعجبون. أو قبول لقب الدكتور المهندس المخترع "علتان"، بعد تفرغه لهندسة الشوارع، واختراع وجبات الطعام.
وماذا عن لقب الدكتور الطبيب البيطري، الذي لم ير في حياته حيوانا بعد أن ترك القصور الرئاسية السورية، وتفرغ للعمل في مطبعة. أما عن لقب الدكتور الأستاذ الأديب فحدث ولا حرج، فقد نسي كيف يكتب اسمه بالعربي ولم يتعلم كتابته باللغات الأخرى، وأنا خير مثال على ذلك. وماذا بعد يمكن أن نقوله عن المهندس المدني الذي تفرغ لتصميم الملابس النسائية، والمهندس المعماري الذي يعمل في محطة للوقود، والطبيب الاختصاصي الذي تنازل عن لقبه ليعمل طباخا، ورجل الدين الذي نسي واجباته الروحية والتربوية وتفرغ لجباية الأموال، رزقا "حلالا" يضعها في حسابه البنكي، والمدرس الذي يبيع الخضروات، والمحامي الذي يقضي نهاره وهو يجتر ماضيه، والقاضي الذي وجدوا له وظيفة "فراش"، والصحافي الذي يقضي نهاره وجزءا من ليله في مطاردة إعلان لاصطياده، والسياسي القدير الذي تفرغ لكتابة تقارير للمعارضة أو النظام، حسب الطلب ولمن يدفع أكثر.
في انتظار "السندباد"، رأى قادة القوم، وطليعتهم الثقافية، أن يتساهلوا قليلا مع "العامة" من أبناء جلدتهم من جهة، والتقدم خطوة باتجاه التأقلم من جهة ثانية، فقرروا اختزال ألقابهم الطويلة إلى حروف، فحل حرف " د " مكان دكتور، و "م" مكان مهندس ومحامي ومعلم وممثل. وحرف "ط" مكان طبيب، وحرف "س" مكان سياسي، إلى آخر المهن.
٣-
مع دوام نِعَم الهجرة، واستطالة زمنها، واختلاط النابل بالحابل، نسي القوم، أو جلهم، وقد تم اختصارهم إلى أرقام ومؤيد ومعارض، أن السبب الحقيقي لمآسيهم وهجرتهم من وطنهم هي سيادة ألقاب أخرى ومنافستها لهم، مثل طبيب عيون تحول إلى جلاد، وعسكري خائن لشعبه ووطنه، ومخابرات همها التخابر على المواطنين، وطائفيون يقتلون الناس على الهوية، ورشوة، وتزوير ونهب وبلطجة. ونخشى أن يستمر الاختصار ليطال الوطن وشعبه.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية