روى لي أحد الأشخاص الأتقياء المحترمين، إنه منذ وطأت قدماه أرض مونتريال لم ينقطع عن أداء طقوسه الدينية، لا يعيقه في ذلك عائق، ولا تقعده زوابع أو عواصف من المشاركة في صلاة يوم الأحد. وهو رغم انتمائه إلى إحدى الطوائف المسيحية، إلا أنه كان يرتاد الكنائس العربية على اختلاف أنواعها، كاسرا طوق العزلة التي يحاول كاهن طائفته فرضها على المؤمنين من رعيته، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، بإلحاحه عليهم على ضرورة الحضور كل أحد إلى كنيسته، لأنها، برأيه المكان الوحيد في هذا المهجر، الذي يمكن عبره لابن الطائفة، نيل بركات الرب الإله وغفرانه ومحبته، حتى لينتاب المؤمن، وهو يسمع كلامه، أن الله غير موجود في الكنائس الأخرى.
كانت قدما هذا المحترم تقودانه كل أسبوع إلى كنيسة عربية جديدة، خاشعا ومراقبا ومكتشفا، وباحثا عن شيء مبهم يحاول تحديد ملامحه للوصول إليه، موسعا في الوقت ذاته، دائرة معارفه في أوساط المهاجرين. كان في سنوات حياته السابقة، المليئة بالتطواف الإجباري والاختياري، ولقاء كل أصناف البشر وألوانهم، قد استطاع الوصول إلى نوع من الطمأنينة الداخلية المبنية على التسامح وحب الناس، وتبرير عصبياتهم الصغيرة، باحثا عن أسبابها التاريخية والاجتماعية والشخصية، وفهم بواعثها دون إدانة أحد أو التجريح بمعتقده أكان دينيا أو سياسيا أو اجتماعيا. ولذلك كان يرى أن الإنسان يحتاج، في أغلب الأحيان، إلى نوع من اليقين الداخلي يسند رأسه المتعب إليه، بعد رحلة قد تطول أو تقصر. كانت شخصيته المجربة والمتفهمة والمحبة تلك، قد أهلته أن يستوعب، من موقع المحب، دون تبعية أو رفض، سلوك كاهن رعيته وإصراره على أبناء الطائفة بالحضور كلهم يوم الأحد، إلى كنيسته دون غيرها. كانت تحزنه، لبعض الوقت، مهارة الكاهن في إلباس مقاصده وأهدافه الشخصية، ورغبته في الحصول على حياة سهلة وهنية من جيوب المؤمنين، لبوس التشدد في طقوس العبادة، والحرص على وحدة الطائفة وتماسكها واستمرار تمايزها، أكثر من مهارته في عرض جوهر المسيحية القائم على فكرة التسامح والمحبة والعدل، مستخدما لتحقيق غاياته الخاصة، الثوب الديني الذي يمنحه قوة خاصة، وهيبة موروثة، وجلالا ناله آباء الكنيسة الأوائل بدمائهم وأرواحهم، كما يفعل شهداء سوريا في هدذه الأيام.
لكل ما سبق، كان صاحبنا يتنقل بين الكنائس، كتنقل الفراشة من زهرة إلى أخرى، باحثة عن الرحيق الصافي ولو كان في وردة شوك، إلى أن وصل، قبل فترة قصيرة إلى كنيسة كان قد زارها سابقا، إلا أن جديدها كان كاهنا آخر وصل مؤخرا، لم يسمعه سابقا.
قال لي: لقد كانت مفاجأة بانتظاري، في عظته الطويلة، القوية، المنتقدة لمظاهر الانحلال في المجتمع الكندي، حيث الأسرة مفككة أو غير موجودة، وحيث الابتعاد عن الأخلاق الحميدة، وطغيان المرأة على الرجل، وارتفاع صوت الطفل على صوت والده، والحرية الجنسية التي انحطت إلى دون ما هو موجود عند الحيوانات، في شذوذها وابتعادها عن أهدافها الحقيقية في الإنجاب، حتى كدت أخشى أن يندفع في حماسه أكثر ويتكلم عن المحافظة على معايير الرجولة التي تحدث عنها قبل اسابيع وزير داخلية حماس في عزة. وكانت المفاجأة عندما قال الكاهن بصوت قاصف كالرعد:
يجب أن تعلموا جميعا أن إلهنا غير إله الكنديين، أن مسيحنا غير مسيح الكنديين.
قال صاحبي، وهو يرطب شفتيه الجافتين، بطرف لسانه: لقد ظننت لوهلة قصيرة أنني في مكان آخر، في كنيسة أخرى، ولكن عدت إلى رشدي متأملا الناس الذين أعرف بعضهم، مدققا في الوقت نفسه في شكل الكنسية الداخلي، إلى أن تأكد لي أنني في كنيسة كاثوليكية، وأسمع كاهنا كاثوليكيا، مسيحه الذي يتحدث عنه هو مسيح غالبية (الكيبيكين)، وطقسه الديني هو طقسهم نفسه. بل هناك ما هو أكثر من ذلك، فالكاثوليكية التي يتبناها هذا الكاهن هي ابنة الغرب، وقد وفدت إلى الشرق، فتعلق هو وأجداده في أذيالها لأنها غربية، فلماذا الآن يريد أن يرى في مسيح الشرق مسيحا لا يشبه مسيح كندا؟؟
تابع صديقي قائلا: لقد اكتشفت لاحقا، دون صعوبة، أن كاهننا هذا هو أحد رجالات نظام القتل في سوريا، وليس من مصلحته ومصلحة معلمه أن يكون هناك مسيح ديمقراطي، يؤمن بالتعددية، ومن الأفضل تحريض المؤمنين ضد هذا المسيح المتساهل مع عباده، والالتفاف حول مسيح شرقي ديكتاتوري يشبه بشاره.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية