في بيتنا كلب
لم أعرف حتى الآن الدوافع الحقيقية التي كانت وراء قرار ابني شراء كلب حراسة، فهو قليل الكلام عن نفسه، وعندما يفعل فإنه يقدم كلمات مقتطعة عن سياقها بحيث يفتح المجال لتأويلات متعددة.
أحاول أن أتفهم دوافعه عبر طرح مجموعة من الاحتمالات، فقد يكون بينها ما هو مرشح لتفسير سلوكه، وربما اكتشف أثناء التفكير بصوت عال، أسبابا أخرى تساهم في تكوين قناعة شبه مكتملة عن ذلك. هل هو القلق الذي يميز شخصية ابني، أم إنه الخوف من شيء مجهول، أم هي الرغبة في تقليد الآخرين، أم هي الرغبة في التبني واختبار شعور الأبوة عنده، وعشرات الأسئلة التي مرت في ذهني، دون القدرة على الحصول على جواب.
لست عالم نفس كي أغوص في أعماق ابني وأحصل على إجابة مقنعة، ولست عالما في الاجتماع ولا مؤرخا، كل ما أستطيع قوله أنني كنت مراقبا غير حيادي لما أراه في بيتي، ولما أسمعه من أفراد أسرتي وبعض الأصدقاء عن الحالة التي نحن فيها.
بدأ الأمر ذات مساء، كنت أسمع أحيانا أصواتا عالية في الصالون، وفي غرفة ابني أحيانا أخرى، لم أهتم كثيرا بمعرفة مضمونها، لأنني كنت غارقا في البحث عن أصدقاء افتراضيين على "فيسبوك"، أضيفهم إلى صفحتي كي أصل إلى العدد 5 آلاف، كي أتباهى به أمام الأخرين، فقد يوهمهم في الوقت نفسه، أنني شخصية سياسية وجماهيرية مهمة، فأحصد التصفيق عبر حصاد "اللايكات"، وأقنع بعدها نفسي أنني فعلا شخصية كبيرة، على الآخرين احترامها وحساب حسابها والتصفيق لها بسبب ودون سبب، كما هي عادة الزعماء.
كنت مهموما بما سبق ذكره، عندما جاء ابني وقال: ما رأيك بشراء كلب؟ قلت له ضاحكا: لماذا، وهل ينقصنا كلاب، ألا يكفي اثنان في البيت، في إشارة مبطنة وضاحكة إليه وإلى أخيه؟ اكتشفت النبرة الجادة في صوته الضاحك عندما قال: كلب حراسة قد يكون مفيدا لنا جميعا. فقلت له عابسا: لا، لست موافقا، فالبيت ليس مهيأ لاستقبال قط صغير فكيف بكلب حراسة! عبس وعاد إلى الصالون حيث أمه وأخوه وتابعوا النقاش. بعد قليل جاؤوا ثلاثتهم إلى غرفتي ليقولوا لي إنهم متفقون ومصرون على شراء الكلب، وما عليّ إلا القبول بالأمر.
كان توتري قد وصل إلى اقصاه وأنا اسمع ما قالته زوجتي والولدان، وقبل أن أرد بغضب وأطردهم من بيتي، لعنت الشيطان في سري، وقررت القبول بهذا الأمر، فما معنى أن أعيش أواخر أيام حياتي وحيدا في بيت، مثل كلب أجرب، إذا طردتهم.
جاء الجرو، ابن الثلاثة أسابيع، واحتفلت به العائلة كما تحتفل بمولود جديد. صديقة ابني اشترت له ألعابا، وأختها اشترت له ثيابا شتوية، فقد كنا في فصل الثلج، وابني الصغير اشترى له صندوقا بلاستيكيا مع رمله كي يعتاد على التبول فيه، وزوجتى أسرعت بشراء مجموعة من الأغطية مع فراش خاص للكلاب.
لم تمض أيام قليلة حتى اكتشفت أن جزءا من الصالون أصبح ملكا للجرو الصغير، وأن جزءا من خزانة ابني أصبح مخصصا لأغراض الكلب، وأن رائحة البيت بدأت تتغير، فأينما ذهبت تشم رائحة كلاب في البيت. واجهتنا مشكلة جديدة، فقد كان علينا جميعا مغادرة المنزل للعمل أو المدرسة ولا يجوز ترك الكلب وحيدا في البيت، فقد يمزق بعض الأشياء أو يتبول في أي مكان، فما كان من ابني إلا أن اشترى له قفصا حديديا ووضعه في زاوية الصالون فشغل عشرين بالمئة من مساحته.
وكان لا بد من إكساء "المنزل الجديد" كي يشعر ساكنه بالراحة فيه، فتم شراء الفرش والأغطية والألعاب المخصصة لبيوت من هذا النوع.
كنت أراقب بجزع نمو الكلب وتوسع المساحة المخصصة له داخل البيت، وكيف تحولنا جميعا لخدمته، ولتبرير ما يقوم به من تصرفات لم تكن محسوبة. ورغم احتجاجي من وقت لآخر، فقد اضطررنا، مثلا، لتغيير كراسي المطبخ الخشبية بأخرى معدنية، بعد أن قضم الكلب خشب الأخرى أثناء تجريب قدرة أسنانه على القضم، واضطررنا لرفع الكتب عن الطاولات، كي لا يمزقها، ولم نعد نستطيع تناول طعامنا دون إغلاق باب المطبخ كي لا يدخل ويهجم على أكلنا، رغم أنني كنت أحسده، من وقت لآخر، على نوعية الأكل الفاخر الذي يتناوله.
ولم يتوقف الأمر هنا، فقد كنا مضطرين أن نغلق أبواب الغرف رغم الحر الشديد، كي لا يدخل إليها ويستولي على أسرتنا، وكانت زوجتي تقوم بتنظيف البيت أكثر من 4 مرات في الأسبوع، رغم عودتها من العمل متعبة، وقد يخطر ببال الكلب الذي أصبح وزنه بعد 6 أشهر حوالي 50 كيلو غراما، ومن باب النكاية بنا، قد يخطر له أن يتبول في الصالون، على السجاد، الذي اشتريناه بسببه، حيث إن وزن الكلب الثقيل بدأ يحدث ضجيجا عند كل حركة، ما جعل الجار الذي يسكن في الشقة السفلى يقدم احتجاجا رسميا على ذلك. ولما أصبحت كلفة معيشة الكلب أكبر من قدرة ابني على تلبية حاجاته، لم يكن أمام الولد إلا البحث عن عمل آخر يستطيع من خلاله تقديم مستلزمات الرفاهية إلى كلبه، وهكذا تخلى عن عطلته الأسبوعية يومي السبت والأحد ووجد عملا آخر، وأصبح الشاب يعمل 7 أيام في الأسبوع، كل يوم ثماني ساعات.
في الشهر السابع من عمر الكلب في بيتنا، دعيت العائلة إلى اجتماع طارىء لمناقشة احتلال الكلب للمنزل وسيطرته على كل جوانب الحياة اليومية فيه، وتسخيره لنا جميعا لخدمته، تحت تهديدنا بالعض والتمزيق. وقد أقر الجميع بأنهم لم يفكروا أبدا أن الكلب سيأخذ كل هذا المكان والجهد والمال، من أجل القيام بحراسة منزل لا شيء ثمينا فيه، يخشى سرقته، ولكنهم في الوقت نفسه قد اعتادوا على الكلب، وأصبح جزءا من العائلة، ولم يعد بإمكانهم اتخاذ قرار سهل بالتخلي عنه، وعن خضوعهم لسيطرته المرعبة ولكن الممتعة أحيانا.
قلت لهم: هل هذا قراركم النهائي؟.. أشاروا برؤوسهم أن نعم.
قلت لهم: أستودعكم الله، فأنا سأبحث عن منزل آخر أهاجر إليه، فلم أعد أستطيع تحمل فكرة أن يحكمني كلب في بيتي.
* العنوان مقتبس من رواية احسان عبد القدوس: في بيتنا رجل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية