في رواية"ذئب البوادي" للكاتب الالماني هرمان هيسة، فصل يحمل اسم "غرفة المرايا" يدخل الكاتب بطله الى هذه الغرفة ليجد عشرات المرايا، كل واحدة تريه جانباً من جوانب نفسيته الحقيقية. في إحدى المرايا يجد ذاته مبعثرة، مفتتة إلى اجزاء متصارعة، متقاتلة، الجديد في الحياة يريد أن يطبعه بطباعةه الحديثة. القديم يقاتل للاستمرار على نمط حياته، بل واستدعاء ما مات بفعل عامل الزمن. الهدوء يغريه بالسكينة المطلقة والابتعاد عن كل ما يتحرك في الحياة، والصخب يصور له حياة المجون الجميلة ومتعها الحسية وعدم الاحساس بالمسؤولية. الكل في صراع، وكل جزء يحاول الانتصار على بقية الاجزاء. في مرآة اخرى، يكتشف هو الانسان الذي كان يتباهى بحضاريته وقيمه الانسانية، بأنه ليس بعيدا عن كثيرا عن البربرية وأكلة لحوم البشر، بل ان المرآة ترينه نفسه وهو يستمع بأكل اخيه الانسان حيا. كما تظهره كم هو قريب من صورة الديكتاتور الذي حاربه زمنا، ومن صورة اللص الذي حاكمه وسجنه، انه العنف المنفلت من كل عقال، باختصار: يكتشف بطل الرواية انه يحمل في اعماق نفسه وعقله تاريخ البشرية كله منذ نشأتها، القبيح منه والجميل منذ طفولته المتوحشة وصولا الى حضارة القرن العشرين، ويعرف ان التلوينات والتزويقات التي تغطي سلوكه وفكره وثقافته، ما هي الا قشور هشة، مركبة الواحدة فوق الاخرى، سرعان ما تتداعى عندما يواجه موقفا قد يؤثر على رفاهية عيشه ومكاسبه المادية، التي ربما كان قد اغتصبها في غفلة من الزمن، من غيره.
في مرآة رابعة، تصاب رجولته بصدمة عنيفة، وتهتز فحولته الذكورية عندما يعرف ان في اعماق نفسه تربض امرأة ناعمة، رقيقة العواطف، بتحث عن رجل يلبي رغباتها العاطفية والجنسية. وفي مرآة خامسة، يرى نفسه ذلك الطفل الضعيف الذي ما زال يحبو على ركبتيه والباحث عن الرعاية والعطف والحنان. وتهتز بداخله صورة الرجل المعتد بقدراته وصموده ورفضه لما يحيط به. وتتوالى المشاهد في كل مرآة جديدة، ويتعرى بطل الرواية ليس من ثيابه فقط وانما من كل خفايا نفسه الدفينة، عندها يعرف من هو بالتحديد قبل مغادرته لغرفة المرايا. ويتخذ قراره الواضح: التعامل مع هذه الاجزاء المكونة لشخصيته، وعدم الخجل منها، فهي في مجموعها العام تكون وجوده المادي والثقافي والروحي، اي وحدة الجسد والروح.
الثورة السورية، بالنسبة للسوريين، كغرفة المرايا في رواية هيسة، ولكن ما يميزها عن مرايا هيسة انها حقيقية، حسية، نلمسها باليد كل ثانية، او نرى آثارها على الارض، ونرى الانسان فيها في كل حالاته، من النذالة المطلقة الى التضحية المطلقة بالذات من اجل الحرية، من أكلة لحوم البشر الى السمو بالروح والتي تفوقت على اخلاق الانبياء. في احدى مرايا الثورة نرى كيف ان تاريخ ١٤٠٠ عام جرى احضاره وتحطيمه الى شظايا، كل شظية فيه تستخدم كسكين لذبح الانسان السوري المعاصر ونرى كيف ان المثقف والثقافة قد تخليا عن واجبهما الريادي وانحدرا لدرجة فلسفة هذ القتل والدفاع عنه . وفي مرآة اخرى نرى القيم الكبرى كالحب والتعاضد وهي تتحول الى سلع للتجارة وكسب المال. في الثورة السورية ترى البشرية في تحولاتها وانتكاساتها وتقدمها وتراجعها، في رسالاتها السماوية، وفي مسخ هذه الرسالات وتحويلها الى سواطير للقتل.
من الصعب حصر عدد مرايا الثورة السورية، فهي قد تبلغ ٢٣ مليون مرآة، كل واحدة بدورها متعددة المرايا، ولكن لتسهيل الامر يمكنها حصرها في: مرآة المؤيدن لنظام القتل، ومرأة الثورة، ومرآة الحيادين، مع الاخذ بعين الاعتبار ان التداخل قائم ومستمر ومتبدل بين مكونات هذه المرايا، فالبطل قد تجده في كل المرايا والسافل ايضا.
عذرا لهذه الصورة السوداوية للثورة السورية ومراياها، والتي تبدو للوهلة الاولى وكأنها شظايا مرايا مهشمة، الا انها في الحقيقة هي مرآة واحدة سليمة تعكس حقيقة ذواتنا وانفسنا واوضاع الانسان السوري والمجتمع السوري بمستواياته المتعددة والمعقدة. انها مرآة سحرية تستطيع ان تصنع المعجزات لانها تصنع التاريخ الحديث لسوريا ولجزء مهم من العالم المعاصر، وما علينا كسوريين الا الاستمرار في رعاية مرايا الثورة وتلميعها كلما غطتها الدماء والرايات الصفراء والسوداء، وذلك بمزيد من رحابة الصدر وديمقراطية الفكر والممارسة.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية