عندما اخترت عنوان هذه المقالة، كان بذهني رواية الكاتب السوداني الشهير الطيب صالح وروايته الأهم عربياً، في هذا الباب -موسم الهجرة إلى الشمال-، والصراع الذي دار بين بطل الرواية، مصطفى سعيد ابن الجنوب، العربي المسلم الأسود وسيدة الشمال البريطانية الشقراء، والمآل التصادمي المحزن بين الطرفين. في مقالتي لهذا الأسبوع، أنقل بعض ما بقي من آثار ذلك الصدام عبر نقل قصة حقيقية، تشاء المصادفات أن يكون بطلها شاباً مصرياً يعيش في (مونتريال) ويحمل نفس اسم بطل رواية الطيب صالح.
تعرفت على مصطفى المصري قبل حوالي عشر سنوات، كان قد تزوج حديثاً من شابة لبنانية.
كنت قد أنهيت قبل قليل، وأنا في سن الخمسين تماماً تحصيلي المهني الجديد، بعد أن أمضيت عشر سنوات متجولاً في مونتريال بين صحفها العربية وهموم جالياتها العربية، التي كانت في الحقيقة همومي الشخصية قبل أن تكون هموم الجاليات، إلى أن طفح الكيل، وبدأت ملامح أزمة كبيرة تلوح في حياتي، فقادني صديقي محمد إلى معهد مهني لتعلم الإخراج الفني والصحفي، وهذا ما كان. أنهيت دراستي بطلوع الروح، وقررت تأسيس شركة للخدمات الطباعية والتصميم، وبدأت البحث عن زبائن، وهكذا كان مصطفى المصري من بين أوائل زبائني وأكثرهم كرماً ومعرفة لما يريد.
بعد كل احتكاك تجاري كنا نقترب من بعضنا أكثر، ونكتشف بعضنا أكثر. لا أعرف ما هي الصورة التي كوّنها عني في عقله، ولكنني كنت أقرأ نتائجها الإيجابية من خلال الثقة المتبادلة التي كانت تنمو بيننا كل يوم. ولكنني أعرف جيداً الصورة التي كونتها شخصياً عنه خلال علاقتنا المستمرة منذ سنوات.
لم ينل مصطفى تعليماً عالياً قبل هجرته من مصر إلى كندا وهو في بداية العشرينيات من عمره، وعندما وصل، لم يترك الوقت يتسرب من بين أصابعه، كما فعلت أنا مثلاً، بل انخرط في سوق العمل فوراً، فقد كان عليه إعالة نفسه وعائلته التي تركها في القاهرة. كان مسلماً بعمق، وغير مهتم بالطقوس اليومية للدين إلا صلاة الجمعة، فقد كان حريصاً على الذهاب يوم الجمعة لأداء صلاة الجماعة. كان إيمانه العميق يتجلى في سلوكه اليومي، وتعامله اللطيف مع الناس، وحبه للعمل والإخلاص فيه، فلم يحدث مرة أن ترك عمله دون أن يكمله تماماً، ولم يعرف عنه أبداً أنه يغش أو يكذب في مواصفات البضاعة التي بدأ يصنعها بنفسه، مما أكسبه احترام المحيطين به وثقة زبائنه، فنما عمله وازدهر، واشترى منزلاً لعائلته، التي بدأ عدد أفرادها يزداد، وافتتح محلاً تجارياً ثانياً، وبدا وكأن أموره كلها تسير كما تشتهي سفنه.
قبل حوالي السنتين، وكان الوطن العربي يغلي في ناسه وأزماته وربيعه السياسي، اتصل بي مصطفى يسألني عن ما يحدث في سوريا، ويدعوني لشرب فنجان من القهوة في محلة.
ونحن ندردش عن أحوالينا العامة والشخصية، فاجأني مصطفى بالقول إنه قرر العودة إلى مصر والإقامة النهائية هناك، فبعد عشرين عاماً من الهجرة، لم يعد يتحمل الابتعاد عن مصر وأهله، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، قلقه النفسي الذي كان ينمو مع نمو الأطفال، قال: أنت تعرف أخي ميخائيل أنني أحب أن ينشأ أطفالي في جو إسلامي صحيح، وأن يتعلموا التربية الإسلامية السليمة، وهذا أمر يبدو صعباً هنا، رغم أننا لا نقصر في ذلك لا أنا ولا زوجتي.
كانت المفاجأة بالنسبة لي كبيرة، لأن الإنسان الذي ينجح عادة في عمله يحب مكان إقامته ويراه جميلاً، ولكنني رأيت في الأمر أيضاً، صدقاً كبيراً مع النفس، ورغبة من مصطفى حقيقية في أن يعيش قناعاته الدينية والأخلاقية بعيداً عن المصلحة المادية اليومية، والتي كان قد أمّن متطلبات الحد الأدنى منها، تابع قائلاً: لن أتصرف بأملاكي وعملي هنا، سنذهب أنا وزوجتي وأطفالي الثلاثة للإقامة هناك، وبعد عام، إذا كانت الأمور جيدة سأعود لتصفية أموري هنا. قلت له: عندي سؤال، أريد الإجابة عليه من قبلك بصراجة كعادتك: هل شجعك وصول الإسلاميين إلى الحكم في مصر على التفكير بالعودة؟ قال مطصفى بكل جدية وسماحة نفس: نعم، ازداد أملي في أن تكون مصر والشعب المصري في حالة أفضل مما كان عليها.
ودعت الرجل، بعد أن عرفت أنه سيسافر خلال أيام، متمنياً لهم إقامة طيبة في ربوع مصر الكنانة.
مرت الأيام بسرعة على الجميع ولم أنتبه للوقت، وأن مصطفى مضى على رحيله أكثر من خمسة أشهر. فلم نكن على علاقة يومية قبل رحيله كي أفكر به، أحياناً كان يخطر على بالي عندما أسمع تطورات مصر، وخاصة الجدل الدائر بين أطرف النخب السياسية المصرية وصراعاتها التي تصل أحياناً حد السخف. منذ عدة أيام كنت أمرّ من أمام محله بالمصادفة، فلفت انتباهي حركة غير عادية في المحل، توقفت ودخلت لأرى مصطفى في وجهي، سلمنا على بعض معانقة، وقادني إلى زاوية نجلس فيها بعيداً عن حركة الزبائن، بادرت: هل عدت لبيع أملاكك؟ قال ضاحكاً: بل عدت لأحسن شروط العمل فيها ولأطورها، فأنا قررت أن تكون كندا وطني ووطن أولادي النهائي. قلت له: هل أطمح بمعرفة المزيد من التفاصيل عن قرار العودة إلى كندا؟ قال: ببساطة، ودون فلسفة، فأنا لا أتقنها كما تعرف، وجدت يافطات الإسلام فوق أغلب المؤسسات الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية، باختصار، الشعارات الإسلامية موجودة في كل مكان، ولكنني لم ألمسها في قلوب المصريين ولم أرَ الدين في سلوكهم اليومي، وهدا ما سيظهر ضرره لاحقاً، فقد بدأ بعض الناس يميزون ما بين السياسة والإسلام، لقد اكتشفت بالممارسة اليومية، ان الاسلام الحقيقي موجود هنا. قد يفتح علي هذا الكلام باب جهنم لو قلته بشكل علني، ولكنني أريد في النهاية مصلحتي ومصلحة أولادي وهي هنا، دينياً وتجارياً وتعليمياً، وليست في مصر.
وكان موسم الهجرة إلى الشمال من جديد.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية